تشكلُ الفعالياتُ المسرحيةُ القادمةُ من محافظاتِ العراق إضافاتٍ نوعيةً ستكون رصيداً مضافاً إلى حركة المسرح في العراق.
وتبدو تلك الفعالياتُ التي تنحو نحو التخصص والتمركز عند ظاهرة محددة ذات خصوصيةٍ مائزة كالذي شاهدناه في مهرجان( ينابيع الشهادة المسرحي) لنقابة الفنانين في محافظة بابل ومهرجان (الطف المسرحي) لنقابة الفنانين في محافظة النجف. ففي هذين المهرجانين حضرت طقوس التعازي وشعائر التعزية اللتان يستمدان فعلهما وتواصلهما من واقعة الطف وتداعيات أثرها في بعدها التاريخي والديني والإنساني.
ولعل من الراجح حين تُسلط الاضواء على هذين المهرجانين بوصفهما قد حققا لهما حضوراً مضافاً ومتواصلا ضمن حركة المسرح في العراق وبما يركزان عليه في إحتضان تجارب ومحاولات في مجال الفن المسرحي وعلى مستوى التأليف والإخراج وحتى في تصيُّرِ الطريقة المثلى في إخراج العرض المسرحي.
ومما يسهمُ في جلب الإنتباه والمتابعة لما ترتب من أثار إيجابية لهذيين المهرجانين يمكن إجماله بالآتي:
– أنَّ هذين المهرجانين قد راهن القائمون عليهما على ديمومة التواصل ف(ينابيع الشهادة المسرحي) هو الآن بعاشر دوراته و(الطف المسرحي) يأتي برابع دوراته وهذا الإستمرار من شأنه أنْ يعطي للدارسين والمتابعين مدى الأهمية القصوى التي يوليها القائمون على هذين المهرجانين بوصفهما يؤسسان لتقاليد مسرحية ذات بعد تخصصي ينهلُ من خصوصية التفاعل والتعاطي مع واقعة الطف والنظر إليها بمعطيات الماضي المتواصل بعيون الحاضر فنياً.
-ومما يدعو إلى الإشادة وشدة المتابعة أنَّ ثمة تواصلاً مثمراً مع فن المسرح وأنَّ إستثماراً راجحاً لكل المعطيات التي يتطلبها العرض المسرحي الحديث وإنَّ تصوراً جديداً بحسب ماتقول به تلك المعطيات من قبل الكثير من العروض المسرحية والتي قدمها الفنانون في هذين المهرجانين إنْ كان على مستوى التأليف المسرحي أو على مستوى الإخراج
وفي مستوى رسم خرائط السينوغرافيا وطريقة تشكلها على مساحة الخشبة المسرحية وأيضا في التعامل المرن في توزيع مفردات الديكور وايضا في إستثمار معطيات العالم الإفتراضي وتكنولوجيا الإضاءة والإنفتاح الكبير في إستعمال تقنية التداخل مع الشاشة السينمائية والداتاشو.
-ولعلَّ المتابعَ عن كثب سيجد أنَّ الكثيرَ من النصوص على مستوى التأليف قد صار بعضُ كتابها يعولون على فعل الذاكرة الجمعية وهم يستحضرون حوادث التاريخ بعيداً عن مثابات الوقوع في شرك التحيز الطائفي أو العاطفي أو التعامل الفج مع تفاصيل واقعة الطف بل حصل أنَّ ذائقة المخيلة وميزان فعلها مسرحيا هو الذي سارَ فكان أنْ شاهدنا عروضاً مسرحية تسيدتْ فيها ذائقةُ الفن تصوراً وتبصراً وإخراجاً رغم أنها تنهل من عمق تاريخ تلك الواقعة.
-ومما يجدرُ القولُ به أنَّ العديدَ من العروض المسرحية التي شهدتها دورات هذيين المهرجانيين نجدها قد إتخذت من واقعة الطف كمنطلق بيد أنَّها أخذت بتداخل الأحداث من حيث الزمن ومن حيث الأثر فقد راهن العديد من منتجي هذه العروض على أنْ يكون الحاضر وما نعيشه من أحداث متفاعلاً وممتداً ومسترجعا ومحاكماً لتلك الحوادث السابقة بعين ما يراه وما يلمسه راهن حاضرنا، وتعد هذه الإشتغالات من علامات النجاح لعديد من هذه العروض حين اولتْ لمقدرات الفن ورجاحة حضوره بعداً اساسياً في التبني وفي التقديم.
-وإنْ كان لابد من التركيز فيما قدمه هذان المهرجانان ويستحق التنويه والمتابعة المثمرة فإنه يكمن في سيادة الروح الشبابية التي كان لها قصب السبق في الحضور والتواجد وليس بغريب حين نجد العديد من الشبان وقد حصلوا على أغلى الجوائز في التأليف والإخراج أو في التمثيل وفي تشكيل طرائق العرض المسرحي وما يحتويه وما يتمخض عنه متن العرض المسرحي.
-ومن الإضافات المهمة أيضا لهذيين المهرجانيين والتي تعد من علامات النجاح الراكزة فيهما أنَّ قيمَ وتقاليد إقامة المهرجان المسرحي قد تم تثبيتها لتكون من ابجديات ما يقوم عليه كل مهرجان ومنها أننا مع قيمة الفن حين يتم التعامل معها بمهنية الأداء والتنفيذ والحرص الشديد النابع من إيمان حقيقي بفن المسرح ورسالته الخالدة في بناء الإنسان معرفيا وذوقياً وحضارياً
وعند التبصر بما أقدم عليه القائمون على هذيين المهرجانيين فنجد أنهم اعطوا الأولوية لترسيخ قيم النقد المسرحي وما تشكله من ركيزة فاعلة في إعلاء القيمة الحقيقية لما يقدم من عروض مسرحية بالفحص والتحليل والتقويم والحكم اللائق وفق ماتتطلبه الموضوعية والمهنية الصادقة. وأيضا في التركيز على تفعيل دور التحكيم والمشاهدة الناضجة.
-ومن الناصع في الإضافة حين تُفتَح محاورُ فكرية تكون مصاحبة لفعاليات المهرجان الغاية منها التوثيق والطرح النقدي إزاء ظواهر فنية تتعلق وتدخل بصميم خصوصية هذيين المهرجانيين والتقصي العلمي الدقيق في تثبيت بعض المصطلحات وتقعيدها علميا ونقديا كما حصل في الدورة الأخيرة لمهرجان (ينابيع الشهادة المسرحي) لنقابة الفنانين في محافظة بابل/العراق إذ إقيم محور فكري بعنوان(المسرح الحسيني بين التراث والواقع الفكري المعاصر) فقد قدمت في هذا المحور بحوث من قبل نقاد وباحثين متخصصين في مجال المسرح وكان لهذا المحور إضافة واضحة في بعدها المعرفي وفي التدقيق التاريخي وفي الكيفية التي يمكن من خلالها تقعيد وتثبيت المصطلح والتسمية الحقيقية التي يجب أنْ يكون بها وعليها حين خلصت أغلب الأوراق البحثية في هذا المحور على عدم التبث الحقيقي بوجود ما يسمى بالمسرح الحسيني وإنما مال أغلب الباحثين إلى ترجيح القول بقبول مفهوم التعزية ومظاهر الطقوس والشعائر لتكون المصدر الأول الذي يمكن الوثوبِ إليه حين يتم التطرق أو البحث الميداني الذي يهدف إلى تقنين هذا المفهوم وفق قواعد البحث والتدقيق الذي يصبو إلى الدقة والى الإقتراب الامثل من مساحة واضحة تكون عندها من دلائل المصداقية أكثر وثوبا وأكثر قبولا.
فما وجدْناه من إشتغالات مسرحية إستوعبت الكثير من هذه الشعائر والطقوس وهي تنبش من ميراث واقعة الطف إلا أنَّها إشتغالات قد إستثمرت أغلب طرائق وتقعيدات المسرح الغربي فلاغرابة أنْ نجد من المسرح الارسطي أو من الواقعي أو من الملحمي وحتى الإفادة
مما جاءت به موجات التحديث المعاصرة والتي تستثمر من قيم الحداثة وما إستجد بعدها من فنون درامية مختلفة وحتى من فروضات التطور التكنولوجي والعالم الإفتراضي اوالرقمي والذي بدأنا نلمسه في عروض مسرحية قدمت في الدورة الأخيرة من مهرجان(ينابيع الشهادة المسرحي) وكذلك وجدنا في عروض تميل إلى المزج بين الأداء الدرامي وبين الرقص التعبيري من خلال الإستثمار بالجسد، وأيضا ذهبت بعض العروض إلى الإقتراب من إسلوب الغروتسك في طرحها وفي تهكمها وهي تتناول موضوعات مستلة من التاريخ القديم ومحاولة سحبها إلى ما هو راهن بقصد النقد أو التشنيع بما أقدمت عليه من أفعال اساءت للإنسان كبناء آدمي وفي وجود يجب أنْ يكون محترماً فيه..