تمهيد:
كثيرةٌ هي الدراسات الَّتي تناولت نشأَة المسرح عند الإِغريق قبل حوالى أَلْفَيْن وخمسمئة عام. هذا التاريخ هو في الواقع يشهد على ولادة “المسرحيَّة”, أَمَّا “المسرح” فقد عرفته البسريَّة منذ أَن كانت. وبهذا نفرّق ما بين “المسرح” و “المسرحيَّة”. “فالمسرح” شكلٌ إحتفاليٌّ إِبتدأَ مع أَنشطة الصيد الأَولى الَّتي عرفها الإِنسان البَدَئيُّ, لتشمل كلَّ احتفاليَّات السحر والخصب والموت…أَمَّا “المسرحيَّة” فهي شكلٌ أَدبيٌّ, إِنطلق من تلك الإِحتفاليّات نفسها, لينتظم لاحقًا في إطارٍ محدَّدٍ بموضوعٍ معينٍ وزمانٍ ومكان.
والمسرح الإِغريقيُّ, الَّذي اعتمده الدارسون والباحثون نقطة البَدءِ بالنسبة إلى المسرح العالميِّ, نشاَ أصلاً كعملٍ دينيٍّ يعالج موضوعاتٍ مستمدَّة من صُلب العبادة ومن عالم الآلهة “الَّذي أَوجَدَه اليونانيّون بحُكم الضرورةِ القصوى, ليتمكَّنوا من تحمُّل تَبِعات الوجود”[1], وذلك عبْر الأَساطير, وعبر التعامل والتفاعل مع الأَسرار الغيبيَّة في عالمٍ مطلقٍ تشوبه الفوضى ويعتريه الغموض وتتحكَّم فيه الحتميَّة القدريَّة. وعليه, فإنَّ القول بعلاقةٍ ما بين المسرح والميتولوجيا, يبقى مبهمًا ما لم نخُضْ في مظاهر تلك الميتولوجيا وتفاصيلها, لإماطة اللِّثام عن خفاياها ورموزها الَّتي تناولتها موضوعات المسرحيَّات الأُولى, وانطلقت منها إِلى كشف حقيقة ما يؤمن به الإِنسان المذعن لمشيئةٍ قدريَّةٍ لا يجد منها خلاصًا. فأَتى المسرح ليفتح له بابًا إِلى المعرفة أَوَّلاً, ثمّ إِلى التمرُّد والتخطّي.
– الإِشكاليَّة:
تبرز أمامنا هنا إِشكاليةٌ في مفهوم التخطّي الَّذي يمكن تفسيره بتجاوز الأَعراف الإِلهيَّة, وإِدارة الوجه عن أشكال العبادة الَّتي ارتضاها الإنسان منذ أَن وُجد, وربط بها مسارحياته كلِّها, واستسلم لمشيئة أربابه, أيَّا تكن هذه الأَرباب, وتركها تتحكَّم في قدره ومصيره, في غياب الوعي الَّذي يحدِّد وحده صوابية الولاءِ والإِنتماء. وكأَنَّ المسرح جاءَ ليوقظ هذا الوعي الخامد, ويدفع بالإِنسان لا إِلى تخطّي قَدَره فحسب, بل إِلى تخطّي ذاته أَوَّلاً وإِدراك حقيقة وجوده.
– عالم الآلهة: بين الأُسطورة والواقع
كلُّ شيءٍ يبدأُ من الخواء, منذ ظهور “جيا” أَو “غايا” (GEA, GAYA), الأَرض, الأُمُّ البكر, الأَصل والجوهر, الَّتي قسمت الفراغ الكونيِّ قطاعاتٍ ثلاثة: الوسط حيث هي, العالم العُلويُّ والعالم السفليّ. ثم أبدًعت إِبنها البكر “أُورانوس” (URANOS) الَّذي شغل حيِّز السماءِ (العالم العلويّ), تاركًا لأَبناءِ الظلمة المتحدِّرين من الخواء, أَن يستوطنوا العالم السفليّ. وارتبطت “جيا” في علاقةٍ شاذَّةٍ مع ابنها تولَّد في نتيجتها الآلهة والوحوش. ويتكشَّف لـ “جيا” بعد زمنٍ, أَنَّ “أُورانوس” بات متحكِّمًا بكينونة الوجود وصيرورته, في مسلكيَّةٍ فوضويَّةٍ متعسّفة كسرت كلَّ الإِعتبارات, ما دفعها إِلى التآمر ضدَّه, مستعينةً بابنها الأَصغر “كرونوس” (CRONOS) الَّذي يقتل أَباه, وينتزع منه السيطرة على الكون, متخطِّيًا إِيّاه بخلق النظام, لكنَّه كان نظامًا هشًّا, بَدَئيًّا ذا أُطُرٍ واهيةٍ لم يكتمل بناؤُها, ولم تثبت جذورها بعد[2]. هذا النظام الضعيف الكيان والواقع في استمرارٍ تحت نقمة وحوش الخواء (الطياطن), وجد في النهاية من انزعج من فراغه وخاف عليه من التداعي والضياع. فقد توالت الأَحداث الأُسطوريَّة في سياقٍ مثير, ونهض “زوس” (ZEUS) إٍبن “كرونوس”, فاقصى أَباه عن السلطة, ومضى يقتسمها مع إِخوتِه وأَخواته في العالم العُلويِّ, ومع أَبنائه, هادفًا إِلى ابتداع نسقٍ رائعٍ للكون والوجود, كاملٍ ومتكاملٍ[3].لكنَّ القلق مكتوبٌ أَبدًا على جبين الخالق كما على جبين المخلوق. فالصراع الَّذي قام أصلاً بين “أُورانوس” والخواء, استمرَّ مع “كرونوس”, ويستمرُّ مع “زوس” في شكلٍ أَقوى وأَشدَّ عنفًا[4]. إنَّه صراعٌ بين الآلهة والطياطن, بين الوجود والعدم, بين الخير والشرّ, بين الحركة والجمود, وبين الحياة والموت. صراعٌ مع الذات قبل أَن يكون صراعًا مع الآخر, صراع التوازن الَّذي يُحدِّد معالم الوجود ويصونها.
– بين الإِله والإِنسان: إِتِّحاد الطبيعتَيْن
يعمد “زوس” في النهاية إِلى خلق عالم البشر, عالم الواقع المحسوس والمنظور, مكرِّسًا إيَّاه امتدادًا حتميًّا لعالم الآلهة, عالم الغَيْب والخيال والوهم والحلم, متخطِّيًا أَباه في ذلك بخلق الشكل (المادَّة). ويندهش “زوس” أَمام صنعة يديه, أَمام هذه “الصورة” المبنيَّة على العاطفة والإِنفعال والتطرُّف, فينحدر من مثاليَّته, منساقًا بغرائزيَّةٍ عنيفةٍ, ويغرق مع البشر في علاقاتٍ “إِنسانيَّةٍ” إِختصرت لمسافة وقرّبت ما بين الخالق والمخلوق, مفسحةً المجال أمام تَساؤُلاتٍ جديدةٍ مضنيةٍ، وأَمام تناقضاتٍ لا حدود ولا تفسير لها. وحذا الآلهة الباقون حذَو سيِّدهم “زوس”, فتهافتوا إِلى عالم البشر, وارتبط الذكور منهم بعلاقاتٍ جنسيَّةٍ مع إِناث البشر, والإِناث منهم مع ذكور البشر, وتوالد آلهةٌ جُدُدً وأنصاف آلهة[5]*. هكذا اختلطت الأُمور وتشعَّبت, وانقلبت المفاهيم حين تسرَّبت مثاليَّة الآلهة إِلى أَعماق الإِنسان. لقد اتّحدت الطبيعتان في فعل اغتصابٍ عجيب, إِغتصاب الذّات للذّات, واغتصاب الروح للجسد, ما يفسِّر, وإِن في شكلٍ عبثيٍّ, إِستمراريَّة الحياة والوجود.
أَمام هذا الحوادث الأُسطوريَّة والوقائع الميتولوجيَّة, وقف الإِنسان ينظر إِلى الأُمور في حسرةٍ وخوف. لقد أَيقن في وضوحٍ أَنَّ الصراع المتوازن ما بين الآلهة والطياطن لا بدَّ من أَن ينعكس عليه سلبًا. فهو الحلقة الضعيفة والحلُّ, في حياته أو موته، لعقدة اللاّإِنهزام واللاّإنتصار. إِنَّه الضحيَّة الَّتي كُتِبَ لها أَن تضرس بحصرم الوجود والكون والقدر. وهو أيضًا الحقيقة “الماديَّة” الثابتة والأَكيدة في الفراغ الأَكبر المليءِ بالتناقضات, ما يجعله يتخبَّط في واقعٍ مريرٍ مستسلمًا لمشيئة “المصادفة”, وقد قُدِّر لها أَن تعبث وتتحكَّم في مقدٍّراته.
حيال ذلك, لا يسعنا إِلاّ البحث عن ماهية الأُسطورة ومفهومها, وهي الَّتي أَرست في وجدان الإِنسان الإِغريقيِّ عبءًا ثقيلاً نجم عنه خضوعٌ مطلقٌ للإِرادة الإِلهيَّة. وهذه الأُسطورة نَمَت فيه, وبإِرادته, بفعل الحاجة إِلى ملاذٍ لكونها “تعبيرًا عن النزعات الإِنسانيَّة الَّتي يرتكِز عليها الوجود البشريّ. “وهي محاولةٌ لمعانقة الثابت والأَكيد والدائم عَبْر الصيرورة والجزئيَّة والتحوُّل والفرديَّة والأَنانيَّة (…)وُلدت من ضباب اللاّتاريخ, وهي حصيلةٌ مشتركةٌ بين الأَحياءِ لاذوا بها كنوعٍ من اليقين الثابت الَّذي ينقذهم من دوّامة التغيير ومن هبائيَّة وجودهم, إِلى نوعٍ من الخلود الإِعتباريّ…”[6] فالأُسطورة إِذًا فعلٌ إنسانيٌّ بحتٌ يسعى إِلى نوعٍ من الأَمان والطمأنينة, ويعمل على استيعاب فكرة الوجود واحتوائها. وهي أَيضًا مرحلة الإِنتقال من اليقين الأَعمى والخضوع المطلق, إِلى الشكِّ في الحقائق الأَزليَّة الَّتي باتت تسحق الإِنسان. هذا الإِنسان, وقد بدأَ يتطلَّع إلى المشاركة في تسيير دفَّة الوجود, والتحكُّم في قَدَره, في الحدِّ الأَدنى, نَفَذ عَبْر الأُسطورة إِلى أَعماق القدرة اللاَّمحدودة, منتصرًا في ذلك على ذاته, ومتحرّرًا من مركَّبات نقصه, ومن حقيقته الزائلة. الأسطورة أَعطت الآلهة شكل البشر, لكنَّها ميَّزتهم بالخلود, وإِن لم يكن وجودهم أَزليًّا في عُرفها ولا أَبديًّا. يتمتَّعون بالقوَّة الفائقة, لكنَّ عالمهم لا يختلف في شيءٍ عن العالم المادِّيِّ (عالم البشر). فهم يأكلون ويشربون ولهم عاداتهم وتقاليدهم وأَزياؤهم ومجالسهم, ولهم أيضًا مناقشاتهم ومخاصماتهم وأَعمالهم الَّتي تنعكس على عالم البشر وتؤَثِّر فيه تأثيرًا مباشرًا. هكذا صوَّر الإِنسان عالم الآلهة, وفيه جسَّد رغباته وأَحلامه في التحرُّر من حتميَّة وجوده ومن محدوديَّة إِمكاناته. فما يعجز هو عن القيام به, يُتِمُّه الآلهة عنه. وفي تعبيرٍ أَدقّ, جعل الإِنسان الآلهة في خدمته, يحقِّقون له تطلُّعاته المستحيلة إِلى تخطّي واقعه المشؤوم والمحكوم بالإنتفاءِ والتلاشي. لكنَّ هذا التفكير البَدَئيَّ لا يدخل في نطاق العقل والمنطق, بل هو مجرَّد انفعالٍ غريزيٍّ صرف, إِلاَّ أَنَّه يُعزِّي الإِنسان على تفاهة كينونته ومصيره, خصوصًا بعدما أَيقن أَنَّ القَدَر الأَعمى يقف حائلاً بين الآلهة أَنفسهم والخلود الأَبديِّ المُطلَق.
– من الأسطورة إِلى الملحمة: الفناءُ والخلود
صراع الوجود واللاّوجود, أَراده الإِنسان الإِغريقي بملءِ الخيال والوهم, وأَيضًا بملءِ الوعي والعقل. فقط اختلق الأُسطورة ليعيش تحت ظلِّها ويتمسَّك فيها في لحظات الإِنهيار الذاتيّ والفراغ, أَو في لحظات الإِحباط. وحين وقع تحت وطأَة بدعته “الكاذبة”, راح يبحث عن ملاذٍ جديد, عن أَملٍ ينشله من هُوَّة العجز, فكانت الملحمة الَّتي اتَّحدت مع التاريخ لتكون بالنسبة إٍليه إِنجيل حياةٍ جديدةٍ, فيه البداية والنهاية:بداية انطلاقه إِلى البحث عن ذاته الحقيقيَّة الأَصيلة الَّتي لم يتبيَّنها بعد, ونهاية فكرة انتفاءِ هذه الذات نهائيًّا أَمام قدرات الآلهة الَّذين باتوا يفكِّرون ويتصرَّفون ويعيشون عنه حياته كلَّها, ما أَسقط من يده كلَّ حيلةٍ، وأَفقده القدرة على التحكُّم في أَبسط أُمور الحياة, طالما أَنَّ الآلهة الَّذين استجار بهم, تولَّوا كلَّ أَمرٍ واستولوا على كلِّ المقاليد.
هذه الحقائق تكشفها لنا ملحمتا “الإلياذة” و “الأُوذيسَّة” اللَّتان جرت أَحداثهما في القرن الثاني عشر ق.م., وقام الشاعر الإِغريقيُّ الأَعمى “هوميروس” (HOMEROS) بجمعها والأَساطير المنسوجة حولها, في القرن التاسع ق.م. و “الإِلياذة” في الأَصل تعني ملحمة “إِليون” (ELION) أَو “إِليوس” (ELIOS), القسم القديم من “طروادة” (TROY), وهي نصٌّ شِعريٌّ يتناول أَحداث حربٍ جرت حول المدينة. وقد أُدخل الآلهة فيها كأَشخاصٍ عاملين يؤَثِّرون في سير المعارك, ويناورون, ويناصرون هذا الفريق أو ذاك من المتخاصمين البشريّين, ويتقاتلون في ما بينهم. وقد ردَّ “هوميروس” الأَعمال الخارقة الَّتي جرت خلال الحرب إِلى أَشخاصٍ “إِلهيّين” يتصرّفون بوحيٍ من الآلهة. والآلهة هنا يوحون أَحيانًا بكلماتٍ مسموعةٍ وحضورٍ مُشاهَد[7]. أَمَّا أَبطال “الإلياذة” فهم بشرٌ وأَنصاف آلهةٍ محكومون بالفناءِ عاجلاً أَم آجلاً. وهم يتخبَّطون في حلقة وجودهم المفرغة, من دون أَن يعرفوا لذلك سببًا أَو نتيجةً, سوى أَنَّهم يقضون حياتهم كما رُسمت لهم حتّى تأتي ساعة موتهم. لا يَتَساءَلون مطلقًا عن حقيقة وجودهم أَو عن حتميَّة مصيرهم. فالموت بالنسبة إِليهم شأنٌ عابرٌ لا يستحقُّ التوقُّف عنده, لا بل قد يكون هدفًا قائمًا في ذاته, يجتازون عبره إِلى فسحةٍ جديدةٍ تقرِّبهم أَكثر إِلى معبوديهم. فقد آمن اليونانيّون القدماءُ بالحياة (حياة الروح) بعد الموت.
“آخيل” أو “آشيل”(ACHILE) وهو أَعظم أبطال “الإلياذة” شأنًا, ما ثار مرَّةً في وجه واقعه, ولا تمرَّد عليه في انطلاقه إِلى البحث عن الذات. كان يعلم أَنَّ أَجَلَه قصيرٌ, إِذ أَنبأَته أُمُّه الإِلهة “تيتيس” (TETIS) بذلك. ومع هذا نراه ينساق دائمًا بغرائزيَّةٍ بَدَئيَّةٍ إِلى الفتك بأعدائه, من دون التلفُّت إِلى عمق الوجود لتغيير وجهة قدَره أَو تخطّيه. ونجد في “الإِلياذة” أَيضًا بشرًا يقاتلون بعض الآلهة. لكنَّ هذه الظاهرة لم تكن تعني مطلقًا, وفي هذه المرحلة, الثورة على القوى الفوقيَّة, وإِنَّما هي انفعالٌ آنيٌّ مرحليٌّ مدفوعٌ من آلهةٍ آخرين تتحدَّد غايته في خدمة المصالح الربَّانيَّة, وفي تسوية الأُمور العالقة في المجتمع الإِلهيِّ. لقد سلَّم الإِنسان أَمره إِلى الآلهة, فإذا بالآلهة يبتزّونه بزهوٍ وكبرياء. في أّحدِ مقاطع “الإلياذة” يدور قتالٌ بين الأّربابَ إنتصارًا لهذا الفريق أَوذاك من المتخاصمين (الإِغريق والطرواديّين), وقد جلس “زوس” في عليائه “يتسلّى” بمرآهم. وشاق “هيفاست” (HEFASTE) إِله النار, أَن يرى “أبوللّون” (APOLLON) إِله القوَّة, ملتزمًا الحياد ولا يتدخَّل في هذا الصراع الربَّانيّ, فراح يستحثُّه محرِّضًا إِيَّاه على الإِنتصار للإِغريق. ويجيبه “أَبوللّون” في عَظَمة: “لم تكن لتدعوني بالحكيم لو قاتلت معك في سبيل رجالٍ حقيرين, ما هُم إِلاَّ كأَوراق الشجر. فبينما تراهم الآن في عنفوان حياتهم يأكلون ثمار الأَرض, إِذا هُم وقد عمَّهم الفناءُ التامُّ في الغد”[8].
فأَين الإِنسان من ذلك؟
إِنَّه في الحضيض, في أَسفل دركات الظلمة, وقد استحال من إِبنٍ للحياة والوجود إِلى إِبنٍ للخواءِ والعدم. إِنَّه الهباءُ المتناثر في هذا الكون العظيم اللاّمتناهي, والمادَّة الهبائيَّة الَّتي لا حقيقة لها. إِنَّه “الكائن” الَّذي لا قِبَلَ له أَن “يكون” بالفعل.
وإِذا كانت “الإلياذة” قد كرَّست انتفاءِ الذات البشريَّة والوجود الإِنسانيَّ, فإِنَّ “الأُوذيسّة” جاءت لتحمل الإِنسان إِلى عالمٍ من الخلود الصُوَريِّ الَّذي يعوِّضه عن تفاهة حياته الدنيويَّة. لقد آمن الإِنسان الإِغريقيُّ كما ذكرنا, بالحياة الأُخرى, وهذا الإِعتقاد اعتنقته شعوبٌ قديمة أُخرى. فالإِنسان جسدٌ وروحٌ, والجسد محكوم بالفناءِ وبالإستحالةِ إِلى عدمٍ, أَمَّا الروح فتبقى هائمةً في الفراغِ الكونيِّ وكأَنَّها وَصمة الوجود البشريِّ على جبين الآلهة والقدر. وما “أوليس” (ULYSSE) بطل “الأُوذيسّة”, إِلاّ صورة الإِنسان في مواجهة حياته, في كلِّ شدائدها وأَهوالها وعتوِّها وفصولها. لكنَّ الخلود يختلف في جوهره ومفهومه بين تفكيرٍ وآخر, وبين حضارةٍ وأُخرى. فالمصريّون القُدماءُ مثلاً, رأَوا أَنَّ انفصال الروح عن الجسد ليس نهائيًّا, وإنَّما هو انفصالٌ مرحليٌّ مُوَقَّتٌ, بحيث تعود الروح إِلى الجسد نفسه لتبدأ معه حياةً جديدة. من هنا كان اهتمامهم في حفظ الجسد من الفناءِ بالتحنيط. الخلود عندهم كان مادِّيًّا كما بالنسبة إِلى الفينيفييّن وغيرهم من الشعوب القديمة, ممَّن اعتنَوا بدفن موتاهم مع الأَسلحة والحُلِيِّ والطعام والشراب على أَمل القيامة. أَمَا الإِغريق فقد اعتبروا الخلود مرحلة حياةٍ جديدةٍ لا مرئيَّةٍ ولا محسوسةٍ في البُعد الكونيٍّ الشاسع. فالروح تنفلت من قيودها المادِّيَّة لتسقط مجدَّدًا في دائرة الإِنقياد إِلى عالم الآلهة ولو في صورةٍ أَسمى. إِنَّه خلودٌ مجّانيٌّ تافه لا معنى له, طالما أَنَّ الروح الإنسانيَّة في مفهومهم، لا تتساوى بعد الموت مع الروح الإِلهيَّة, كما هو معروفٌ في الديانات السماويَّة.
عندما سقط “أُوليس” خلال عودته إِلى وطنه, إِلى عالم الموتى, إِلتقى أُمَّه, وحاول عبثًا أَن يضع يده على روحها رغبةً في عناقها. لكنَّها أَفلتت منه كما يفلت الظلُّ, فقال لها: “كيف هذا يا أُمَّاه؟ أَما أَنتِ سوى شبحٍ أَرسلته ملكة الموت إليَّ؟”, فأجابته أُمُّه: “هذا شأن الأَموات يا ولدي، فلا تبقى لهم لحومهم وعظامهم الَّتي تلتهمها قوَّة النار, وأَمَّا أَرواحهم فهي كالأَحلام تطير هنا وهناك”. وبعدها يلتقي “أُوليس” “آخيل” في المكان نفسه ويبادره قائلاً” “… عندما كنت على قيد الحياة كنّا نُكرمك كما نُكرم الأَرباب. وها أَنتَ بعد موتك مَلِكٌ على القاطنين في هذا المكان”. فيجيبه “آخيل” (الروح) منفعلاً: “لا تُعَزِني على موتي. فإِنِّي أُفضل أَن أَكون أَجيرًا في خدمة عبدٍ, وأَظلَّ على وجه الأَرض, على أَن أَكون مَلِكًا على الأَموات جميعًا”[9].
لا شكَّ في أَنَّ الإِنسان “الهوميريّ” هو إنسانٌ مادِّيٌّ لم يفقَهْ بعد البُعد السامي للذّات البشريَّة. والنزعة الماديّة هي حالٌ بَدَئيَّة لا تمتُّ إِلى المعرفة بصِلةٍ. ومهما تطوَّر هذا الحال, فهو يبقى في حيِّزٍ الإِدراك العاديِّ الَّذي لا يتسامى مع جوهر الحقيقة الإِنسانيَّة الكبرى. ويمكننا القول إِنَّ الإنسان الهوميريَّ مُغلقٌ وهامشيٌّ وضيِّق الأُفق, يعيش حياته بغير معاناةٍ, ومن دون أَن يسعى إلى العبث في المعادلات الوجوديَّة القائمة ومحاولة تغييرها. وهو يتماشى مع تيّار الحياة من دون أَن يعاكسه أَو أَن يتحدّاه. فهو كائنٌ مستسلمٌ وخاضعٌ كلِّيًّا لمشيئة القَدَر وحكم الأَرباب, ومتواطئٌ على ذاته في إيجابيَّة متواصلةٍ تنحدر في استمرارٍ إِلى الهاوية الكبرى. ولا عجب إِن رأَيناه يلجأُ في شغفٍ إلى الكهانة والعرافة. فالكشف عن أَسرار الغيب عنده, ليس توقًا إِلى ولوج عالم الروحانيّات بحثًا عن خفاياه, بمقدار ما هو إِمعانٌ في تفسير الظواهر الماديَّة المحيطة به, وتثبيت هذه الظواهر بإعطائها نفحة لاهوتيَّة سامية تضفي عليها صفة الحقِّ والشرعيَّة والقانون.
أَعمال العرافة والسحر ارتبطت دائمًا في مسألة العبادة, ومعانقة العالم الفوقيِّ بممارساتٍ وشعوذاتٍ تحوَّلت مع الوقت طقوسًا إحتفاليَّةً هدفت أَوَّلاً إِلى استرضاء الآلهة, وأَيضًا إِلى التحرّر من ربقة الحياة اليوميَّة والهواجس التي تُتقل كاهل المرء. لذلك أَولى الإِنسان القديم الشعائر الدينيّة اهتمامًا خاصًّا, تعويضًا عن عُقَدِ النقص والتقصير والكبت الَّتي تلازمه. هذه الشعائر والإحتفاليّات والطقوس الَّتي حملت بذور المسرح الأُولى, نمت نموًّا مُطردًا, وتطوَّرت إِلى أن اتَّخذت شكلاً أَدبيًّا قائمًا في ذاته. فكان المنطلق الأَوَّل لـ “المسرحيَّة” الَّتي “تولَّدت من نموِّ الحضارة وصحوة العقل, ومن إِمعان الإِنسان في مصيره, ليُقيمه على أُسسٍ صامدةٍ, بعيدًا من المجانيَّات الأُسطوريَّة”[10], حين وضع المقدَّسات موضع الشكِّ, وحين طلع بالفلسفة الَّتي قلبت مفاهيم الوجود ومقاييسه رأَسًا على عقب.
– الفلسفة وتبعاتها: موت الإِله وولادة المسرح
في خضمِّ تلك الأَجواءِ الميتولوجيَّة الَّتي حكمت الإِنسان الإِغريقيَّ وتحكَّمت فيه, ما كانت الملاحم إلاَّ لتزيد من معاناته, هو العاجز عن تفسير أَلغاز الوجود الكبرى وأسرار الغيب, بحيث وجد نفسه منصاعًا بكليَّته لإرادة “المجهول” الَّذي أَعطاه أَلف صفةٍ وأَلف إسم. هذه التجربة المرَّة كانت لتستمرَّ لو لم تصادف في طريقها قوَّة العقل الإِنسانيِّ والإِرادة والتوق إِلى الحرِّيَّة ومعانقة المستحيل, ولو لم يبلغ التطوُّر الفكريُّ والإِجتماعيُّ والسياسيُّ مرحلةً متقدِّمةً جدًّا سمحت بوقف هذا “الإنسحاق” البشريِّ أَمام عَظَمة الوجود.
بعد معاناةٍ طويلةٍ نُعرِض عن ذكر تفاصيلها, إستطاعت “آثينا”, في مرحلةٍ من تاريخها, أَن تطيح حُكم الأرستقراطيّين الأَشراف أَواخر القرن السابع ق.م., بعد ثورةٍ حملت إِلى الحكم طبقةً من الأَغنياءِ الجدد المدعومين من الـ “هوبليت” (HOPPLITES), وهي كلمةٌ تعني كلَّ رجلٍ مسلَّحٍ قادرٍ على تحمُّل نفقة عُدَّةٍ حربيَّةٍ تخوِّله المشاركة في الدفاع عن المدينة إِلى جانب الأَشراف”[11]. هذا إضافةً إلى التحرُّك الَّذي بدأته طبقة الفلاّحين ضدَّ الأَشراف, مطالبة بالتحرُّر من نير الفقر والعبوديَّة. ومع الأَغنياءِ الجدد بدأَت مرحلة حُكم “المستبدِّين”أَو” الطُغاة” الَّذين مهَّدوا للديموقراطيَّة. وتجدر الإِشارة إِلى أنَّ كلمة “مستبدٍّ” أو “طاغيةٍ” لم تكن قد وُسِمت بعد بمدلولٍ إِزدرائيٍّ, ولا يُميِّزها عن كلمة “ملكٍ” سوى فكرة الإِغتصاب“[12].
ثبَّتت الديمقراطيَّة أَقدامها منذ مطلع القرن الخامس ق.م., في مرحلة حكم الطاغية “بيريكليس” (PERICLES/ 500-429 ق.م.) الَّذي اجتهد في بناءِ مدينة “أثينا”, فرعى الفكر والثقافة والفنون, ونظَّم المؤسسات الديمقراطيَّة. وانتشرت المذاهب الفلسفيَّة لتُحدث انقلابًا جذريًّا في مجالات الفكر الإِنسانيِّ, وارتكزت في معظمها إِلى الجدليَّة والتفسير العقلانيِّ للظواهر الطبيعيَّة والحوادث الإجتماعيَّة, خصوصًا بعد ظهور الحقَّ الشعبيِّ والفرديِّ وتكريسه في شرائعَ مكتوبةٍ من فعل البشر لا من فعل الآلهة. هذا الأمر حرَّر الإنسان الإِغريقيَّ من قيود الميتولوجيا, وجعله ينطلق إِلى البحث عن ذاته, وإِدراك هذه الذات بالوعي النظريِّ المجرَّد.
من أَشهر المدارس الفلسفيَّة مذهب “هيراقليطس” (HERACLITE) الَّذي ظهر في بداية القرن الخامس ق.م., وعادى فيه الديمقراطيَّة في شدَّةٍ, ونادى بمبدأِ الـ “لوغوس” (LOGOS) أّي “الكلمة” الَّذي يسيطر على الكلِّ, ويحكم كلَّ وجودٍ وصيرورة: وجود الآلهة والناس والطبيعة. ثمَّ المدرسة “الإِيليَّة” (ELEATIQUE) مع “كسينوفان” (XENOPHANE/ 570-480 ق.م.) و”بارمينيدس” (PARMENIDES 515 ق.م.) الَّتي اجتمعت حول منهج ٍ يعتمد على الملاحظة والإِستدلال, ويكشف روحًا علميَّةً, وحصرت تفسيرها للطبيعة بمبادئ الطبيعة, ورفضت مبدأ خلق العالم. فالآلهة في عُرفها غائبةٌ تمامًا عن عمليّات الوجود. كذلك أَعلنت هذه المدرسة وجود الواحد الثابت الأّزليّ (مفهوم الجوهر) في تجريدٍ مُطلقٍ لا زمنيٍّ, وسلكت في مذهبها طريق العقل الَّذي يستطيع وحده إِدراك الوجود النقيِّ الخالصالَّذي لا يطاله العدم. ويبقى مذهب “السفسطة” الَّذي يُعتبر أَشهر المذاهب الفلسفيَّة في تلك الحقبة, وهو يغالط المدرسة “الإِيليّة” في مبدإِ الإقناع بالحُجّة والبرهان. فالرأّي الصحيح عند السفسطائيّن هو الَّذي يقتنع به الناس. وكانت نشأة هذا المذهب وليدة الجوِّ الديمقراطيِّ الَّذي تكرّس السفسطائيون للدفاع عنه بمفاهيمَ خاصّةً تفاوتت ما بين العمق والإبهام[13]. ولا شكَّفي أنَّ هذا المذهب ترك في بنيان الفكر اليونانيِّ أَعظم الأَثر.
حيال ما طرحته هذه المذاهب وغيرها من تناقضاتٍ, بات محتَّمًا على الإِنسان الإِغريقيِّ أن يتيه في رؤيته لهذا الكون اللاّمتناهي, وأَن يقع في أُنشوطة العبث: عبث الكينونة وعبث المصير. وهنا يمكن الإستنتاج أَنَّ جدليّات هذه المذاهب وطروحاتها, جاءت لتعلن في بساطةٍ “موت الآلهة”, أو على الأقلّ, لتكرِّس اندماج العالم الفَوقي, عالم الروح والمُثُل, بالعالم التحتيِّ, عالم المادّة والواقع, قاضيةً بذلك على العلاقة الطبيعيَّة القائمة بين العالَمَيْن، علاقة المخلوق بالخالق، لتزرع مكانها علاقة الصراع والتحدّي، صراع الإِنسان مع ذاته في وجوده ومصيره، وصراعه مع القَدَر وتحدّيه لتسلُّط هذا القَدَر الَّذي يتلهّى بالآلهة كما بالناس، ويسحقهم جميعًا متى تخطَّوا حدودهم.
تلك التراكمات الحضاريَّة كانت في أَساس ولادة المسرحيَّة، والمنابع الَّتي نهل منها شعراءُ الإِغريق الأَوائل أَفكارهم ورؤاهم ومعطياتهم الأَدبيّة الأُولى، فكانت تلك الأَعمال الَّتي خُلِّدت بفكرها الغنيِّ وبنائها الدراميِّ المتين وأَجوائها العابقة بالعَظَمة والأَبعاد الإِنسانيَّة العميقة. ونلحظ أَيضًا الظروف الإِجتماعيَّة الّتي عصفت في المجتمع الأَثينيِّ، والتحوُّلات السياسيَّة الحادَّة، والتطوُّرات العسكريَّة على الصعيدَيْن الخارجيِّ (الحروب الميديَّة ضد الفرس الَّتي انتهت بانتصار الإِغريق)، والداخليِّ (حروب البيلوبونيز ما بين أَثينا ومعسكرها من جهةٍ، وإِسبرطة وحلفائها من جهةٍ ثانية، والَّتي انتهت بانهيار الطرفين أَمام الزحف المكدونيِّ عام 338 ق.م.)
– مسرحةُ الإِحتفاليَّات
هذه الأُمور كلُّها تلقَّفها الشعراء المأسويّون، وشحذوا بها قرائحهم ومواهبهم وأَفكارهم الَّتي أَسقطوها على ما كان سائدًا من مظاهر احتفاليَّةٍ كانت تقام أَساسًا لتكريم الآلهة والإِستجارة بها، والَّتي كانت سبيلهم إِلى معانقة المطلق ومحاولة الوصول إِلى عالمٍ جديدٍ من المثل غير محدود وغير خاضعٍ إِلاَّ لنواميس العقل والمنطق، مع الحفاظ على هالة القدسيَّة للقدرة الإِلهيَّة المهيمنة، والَّتي في دورها تخضع لقضاء الصدفة والقَدَر. وتتزامن نشأة هذه الإِحتفاليَّات مع الجذور الدينيَّة الأُولى الَّتي عرفها الإِغريق. وكانت طبعًا مظاهرَ بَدَئيَّة بربريَّة هشَّة وغير منتظمة، لا تحمل في طيَّاتها أَيَّة إِشارةٍ إِلى السموِّ والإِرتقاء. وكانت في عُرف مقيميها وسيلة تواصلٍ مع العالم الغَيْبيِّ، استدرارًا لعطف الآلهة ونِعَمها، على غرار كلِّ الديانات الأُولى الَّتي عرفتها الشعوب القديمة. وبدأَت هذه الإِحتفاليَّات تنضج تدريجًا واتّخذت مسارًا جديدًا ظهر جليًّا ما بين القرنَيْن السابع والسادس ق.م. في جزيرة كورنثيا اليونانيَّة، وانتشرت لاحقًا في معظم البلاد الإِغريقيّة.
عُرفت هذه الإِحتفاليَّات بالـ”ذيثيرمفوس” (DITHYRAMBE) وكانت تُقام في شكلٍ بَدَئيٍّ تكريمًا للإِله “ديونيزوس” (DIONYSOS) “الَّذي جاءَ يعلِّم الإِنسان أَن يتسامى عن آلام الوجود بالنشوة، وأَلاّ يثق بقدرة العقل على اختراق أَسرار الكون والآلهة”. و”ديونيزوس” أَو “المولود مرَّتَيْن، كما يدلّ اسمه (ديو/نيزوس) هو إِلهٌ إِبن “زوس” من أُمٍّ بشريَّة هي “سميليه” (SEMELE) الرائعة الجمال، إِبنة “قدموس” (CADMUS) الفينيقيِّ. وُلِد من رماد أُمّه ثمَّ سقط ضحيَّة صراع أَبيه مع الطياطن الَّذين نثروا لحم جسده فوق الأَرض، “فغدا مجلبَبَا المأساة”. لكنَّ أَرواح (ربَّات) الغابات وربّات الفنون والشيخ السكِّير “سيلان” (SILENE) تعهّدوه ولملموا أَشلاءَه، ومسخوه تَيْس ماعزٍ لإِخفائه عن الطياطن. فلمَّا كبر، أَخذ يتجوَّل في بقاع الأَرض، وأَتى من الشرق بكرمةٍ راح يُعلِّم الناس زراعتها وصُنع الخمر من ثمرتها، فارضًا على الناس عبادةً عنصرها الأَساس احتفالٌ مسرحيٌّ. وكان يضرب من يعصيه بجنونٍ رهيب ويجعله يأتي أَعمالاً فظيعة.
تميَّزت احتفاليَّات الـ”ذيثيرمفوس” بسعيها إِلى محاكاة الإِله “ديونيزوس” عبر حلوله في المحتفلين (الخورص) الَّذين يردِّدون بعد رئيسهم (الإِكسرخوس) مناحاتٍ شعريَّةً مرتجلةً، ويرقصون على وقع النايات والطبول والصنوج، ويرقصون متمايلين بأَجسادهم وأَعناقهم في شكلٍ دائريٍّ حول مذبحٍ رُبط فوقه حيوانٌ معدٌّ للتضحية، وهو عادةً ثورٌ أَو تيس ماعز، يمثِّل الإِله “ديونيزوس” رمز الخصوبة والتجدُّد والنشوة والحياة. ومع معاقرة الخمر، ترتفع حدَّة الإِنشاد والرقص حتَّى يبلغ المحتفلون أَقصى حالات النشوة والهذيان، في ما يُعرف بالـ”مانيَّا”، فينقضّون على الحيوان المربوط وهو حيٌّ، ويمزِّقونه بأَظافرهم وأَسنانهم، ويأكلون من لحمه نيئًا ويرشفون من دمه الساخن. عندها يحلُّ فيهم الإِله “ديونيزوس”، فيأتون أَعمالاً خارقة تتخطّى قدراتهم الطبيعيَّة. كما تسمح لهم هذه “الحلوليَّة” بالتمرُّد على واقعهم في ما يُعرف بـ”التخطّي الديونيزيِّ” الَّذي “يدفع الإِنسان إِلى بلوغ أَقصى مدىً في الحبِّ والكُره العنف والخوف والشراسة والقسوة والجريمة، في عالمٍ لا يعوق فيه الإِنسان أَيُّ عائقةٍ من المحرَّمات الدينيَّة أَو الأَخلاقيَّة أَو الإِجتماعيَّة أَو السياسيَّة”[14]. وهكذا كانت تلك الإِحتفاليَّات وسيلة الإِنسان الإِغريقيِّ للتحرُّر من السيطرة الإِلهيَّة المطبقة، والتفلُّت التام من قيود الحياة اليوميَّة الدائرة دائمًا في دوَّامة القلق. وحلم الإِنسان بالحريَّة ليس وليد المصادفة، وإِنَّما هو نتيجة التفاعلات الحضاريَّة المتراكمة الَّتي نقلت الإِنسان تدريجًا من عالم العفويَّة والغريزة إِلى عالم التخطيط والعقل.
إِحتفظت إِحتفاليَّات الـ”ذيثيرمفوس” بطابعها الدينيِّ حتّى 561 ق.م.، حين قام الطاغية “بيزيسترات” (PISISTRATE) بإِدخالها إِلى داخل أَسوار “أَثينا”، بعدما كانت تُقام في الحقول القريبة منها. الأَرستقراطيُّون عارضوا هذا الإِجراءَ في الوقت الَّذي كانوا يحاولون استعادة نفوذهم ومكانتهم السياسيَّة والإِجتماعيَّة بدعمٍ من “إِسبرطة”، رمز المدينة الأَرستقراطيَّة والعسكريَّة الصارمة. هذه المحاولات إِستمرَّت أَعوامًا حتَّى جاءَ الطاغية “كليستين” (CLISTENE) الَّذي كان من غلاة الديموقراطيّين، فحسم الأَمر منتقمًا من الأَرستقراطيّين بإِلغاء احتفاليَّات كانوا يقيمونها تكريمًا لأَحد أَبطالهم ويُدعى “أَذراست” (ADHRASTE)، وأَحلَّ مكانها شيئًا من الإِحتفاليَّات الديونيزيَّة وبعض مراسم التكريم لبطلٍ يُدعى “ميلانيبوس” (MELANIPPOS)، كان خصمًا لـ”أَذراست”[15].وهكذا تداخلت الإِحتفاليَّات بعضها ببعضٍ، وانقسم الخورص إِلى خورصين يتحاوران بشعرٍ منظومٍ سلفًا. وبدأ الشعراء يتبارون في نظم الشعر المغنّى، ويتحضَّرون مُسبقًا للإِشتراك في مبارياتٍ مخصَّصةٍ لاحتفاليَّات الـ”ذيثيرمفوس” الَّتي تخلَّت تدريجًا عن جوهرها الدينيِّ واتَّخذت شكل المسابقات الأَدبيَّة. ومن الشعراءِ الَّذين شاركوا في تلك المسابقات “آريون” (ARION) الكورنثي و”بندار” (PINDARE) وغيرهما[16].
هذا التطوُّر في مجريات احتفاليَّات الـ”ذيثيرمفوس” كان مدفوعًا حتمًا بتأثيرات المدراس الفلسفيَّة الَّتي باتت مسيطرةً في تلك المرحلة، محدثةً تغييرًا جذريًّا في عمق الإِنسان الإِغريقيّ، الَّذي بات متأرجحًا ما بين الشكِّ واليقين.
– التحوُّل من المسرح إِلى المسرحيَّة
إِذا كان “آريون” أَوَّل من نظم شعر الـ”ذيثيرمفوس” ولقَّنه تلقينًا، فإِنَّ الملامح الأَدبيَّة الواضحة بدأت تتشكَّل مع “تسيبس” (TETHPIS) الإِيكاريِّ (621 ق.م.)، إِذ اكتسب الحوار أَهمّيَّة خاصَّة على حساب الحركة، خصوصًا أَنَّ “تسبيس” هذا أَدخل إِلى اللُّعبة الَّتي تحوَّلت معه إِلى نوعٍ من الهزل، ممثِّلاً له صفة الراوي الَّذي يسرد الأَحداث إِلى جانب الخورص المنشد. وبرز أَيضًا “فرينيكوس” (FRINICOS) الَّذي كان أَّوَّل من أَدخل إِلى العرض المسرحيّ شخصيَّةً نسائيَّةً. وأَصبحت أَعمال هذين الشاعرين وغيرهما أَقرب إِلى الأوبريت الغنائيَّة منها إِلى العمل المسرحيّ الصحيح[17].
انتظر الأمر قرنًا من الزمن تقريبًا ليصبح العمل المسرحيُّ منتظمًا في قالبٍ أَدبيٍّ متكامل، له أُسسه الثابتة ومفاهيمه الواضحة. وقد استلهم الشعراءُ موضوعاتهم من الميتولوجيَّات والأَساطير والملاحم والأَحداث الإِجتماعيَّة والسياسيَّة والعسكريَّة المتلاحقة. وتناولت الكتابات الجديدة موضوعاتٍ إِتّخذت شكل القصَّة، ولم تعد مجرَّد حواراتٍ مناحيَّة. وكان كلُّ موضوع يبنى على عرضٍ (مقدِّمةٍ) وعقدةٍ وحلٍّ، ويلتزم وحدة المكان والزمان الَّذي لا يتعدّى دورة شمسٍ واحدة. وتعدّى الإِحتفال المسرحيُّ كونه عرضًا غنائيًّا راقصًا يهدف إِلى الإِنتشاء فحَسْب، وأَصبح يركِّز على معاناة الإِنسان ومشاعره وانفعالاته. “فبعدما كان الإِنسان يلهو ويترنَّم مسلِّمًا أَمره إِلى الآلهة، إِرتدَّ إِلى ذاته، وانبثقت من ضباب الأُسطورة ملامح فاجعةٍ لإِنسان معلَّقٍ بين الأَرض والسماء، مصلوبٍ على جلجلة الغيب والإِرادة والعجز، والفعل واللاّفعل، والكينونة، والجزئيِّ والمطلق، تسيّره الأَحداث وهو يسعى إِلى أَن يُسيِّرها…”[18].
“إِيسخيلوس” (ECHILE/525 – 456 ق.م.)هو أَوَّل من التزم هذا الإِطار الأَدبيَّ والفكريّ وكتب أَوّل تراجيديا (مأساة) فاستحقَّ لقبه “أَبو المأساة”، ووُلدت “المسرحيَّة”. كتب حوالى تسعين مسرحيَّة من بينها “الفرس” و”حاملات القرابين” و”السبعة ضدّ تيبا” و”ثلاثيَّة أَورست” و”ثلاثيَّة بروميثيوس” و”المستجيرات” وغيرها. وباعتباره ضابطًا سابقًا في الجيش اليونانيّ، فقد عالج في أَعماله قضايا الحرب والسلم، والظلم والعدالة، والنظام والفوضى…، وتناولها كلَّها من وجهة نظر فلسفيَّة تتلخَّص في نزعة الإِنسان إِلى التساوي بالآلهة والتحكُّم في الحياة والمصير. فالإِنسان الساعي دائمًا إِلى الحقِّ والعدل، وإِلى ارتقاءِ سلَّم الحضارة، والمستَعدّ لأَن يدَّمِرَ كلَّ شيء, وكلَّ من يعترض سبيله, حتّى ولو كان كبير الآلهة[19]، كان محور مسرحيَّات “إِسخيلوس” الَّذي تأثَّر كثيرًا بأجواءِ الملاحم الهوميريَّة، في إِخضاع الآلهة للنواميس البشريَّة في عقلها وفكرها وحسِّها وأَعمالها.
وإِذا كان “إِيسخيلوس” قد أَرسى قواعد المأساة (التراجيديا) اليونانيَّة، فإِنَّ “سوفوكليس” (SOPHOCLE/495 – 406 ق.م.) قد حقَّق تكاملها وازدهارها، وانتقل المسرح معه من حيِّز الوعظ وتشريح الحياة إِلى التأَمُّل العميق في الوجع الإِنسانيِّ، وفي علاقة الإِنسان مع الآلهة، وفي موقفه من القَدَر والكون والوجود. لقد حاول في مسرحيَّاته استرجاع صورة الإِنسان الإِغريقيِّ الأَصيل والمؤمن الَّذي يذعن بطمأنينة لإِرادة الآلهة، موكلاً أَمره إِليها، طالما أَنَّ حياته ومضهٌ في سِفر الوجود. وكأَنَّه كان يردُّ على السفسطائيِّين وأَمثالهم ممّن رفضوا اعتبار الآلهة، وأَغرقوا الناس في متاهات التفكير المادِّيِّ الملحد. كذلك كرَّس كتاباته لمحاربة منطق التسلُّط والطغيان والفرديَّة. كتب “سوفوكليس” حوالى مئةٍ وخمسين مسرحيَّةً أَبرزها “أوديب ملكًا” و”أوديب في كولونا” و”أجاكس” و”فيلوكتيت” و”أَنتيغون”. أَمَّا أَبطال مسرحيَّته فيحملون مسؤوليَّتهم على ظهورهم مرغمين على مواجهة قَدَرهم وتحمُّل تبعاته في شجاعةٍ رغم علمهم بأَنَّ هذا القدر أَقوى منهم، لكنَّهم يصرُّون على ترك وصمة الوجود البشريِّ على جبينه.
إِسمٌ آخرُ يفرض نفسه بين أَعلام صنَّاع المسرح الأَوائل هو “يوريبيدس” (EURIPIDE/480 – 406 ق.م.) الَّذي اعتبره النقَّاد والباحثون أَكثر شعراءِ التراجيديا مأسويَّة. كتب ما يزيد على اثنتَيْن وتسعين مسرحيَّة من بيتها “إِلكترا” و”الطرواديَّات” و”إِيفيجيني” و”ميديا” وغيرها. ويُذكر أَنَّه أَعاد تشكيل بنية التراجيديا الإِغريقيَّة منتقلاً بها إِلى حيِّز “الدراما”. وقد أَظهر في أَعماله ميلاً إِلى شخصيَّات نسائيَّة قويَّة وعبيدٍ أَذكياء، ساخرًا من أَبطال الميتولوجيا، مركِّزًا على المعاناة الداخليَّة لأَبطاله وعلى دوافعهم الشخصيَّة في أُسلوبٍ جديد لم نألفه مع قرينيه.
– الخاتمة
إِنَّ علاقة المسرح بالميتولوجيا لا تقتصر على المسرح الإِغريقيِّ، ولا تتعلَّق فيه حصرًا، بل إِنَّ كلَّ المسارح الأُخرى الَّتي اطَّلعنا عليها في دراستنا وأَبحاثنا، من المسرح الهنديِّ إِلى الصِّينيِّ واليابانيّ، تحدَّرت هي الأُخرى من منابع العبادة وأَشكالها، ومن الرغبة الإِنسانيَّة في بلوغ الرضى الإِلهيِّ، الَّذي ينمُّ عن خضوعٍ مُطلقٍ للقوى الغيبيَّة الَّتي لم يجد الإِنسان سبيلاً إِلى تحاشيها، باعتبارها قوَّةً أَعظم منه, وأَنَّ رضاها ينجيه وغضبها يقهره. وبدءًا من الميتولوجيا البَدَئيَّة، لجأ إِنسان المغاور إِلى استنباط عبادةٍ لاذ بها من ضعفه في مواجهة قوى الطبيعة (النار والماء والهواء والشمس والقمر والظلام…)، فاعتبرها “آلهةً” يجب الخضوع لها. وكان ذلك بدافع الخوف حتمًا، والخوف وليد الغريزة لا العقل.
ومع تطوُّر الفكر البشري، بدأَ الإِنسان تدريجًا يتطلَّع إِلى التخلُّص من سطوة “الأَعلى”، عبر أَشكال عبادةٍ جديدة إِنطلقت من صحوة العقل ومن تفتُّق الوعي، فأَوجد نوعًا من المصالحة بينه وبين ذلك “الأَعلى” بعدما تقرَّب منه في طرقٍ مختلفة. فإِذا أَخذنا الحضارة المصريَّة على سبيل المثال، فإِنَّ الحاكم (الفرعون)، وهو بشريٌّ، منح نفسه صفة الأُلوهة. وعلى هذا الأَساس قامت إِحتفاليَّات المصريّين القدماء تستحضر عالم الغيب من خلال “الفرعون” الَّذي بات ممثِّلاً للمملكة العلويَّة وللمملكة السفليَّة على الأَرض.
وفي عودةٍ إِلى الإِغريق، فإِنَّ ما حدث في بلادهم من تسلسلٍ حضاريٍّ عزَّز فيهم شعورهم بالقدرة البشريَّة على تخطّي الذات، وزادتهم المذاهب الفلسفيَّة الَّتي ظهرت عندهم وعيًا وثقةً في النفس، وانتشلتهم من هوَّة الخوف، ليصبح الإِيمان عندهم قائمًأ على ما يُمليه العقل، لا على ما يتسبَّب به الضعفُ والجهل من خمولٍ وتراخٍ في أَعماق النفس البشريَّة. هكذا تحوَّلت أَشكال العبادة عندهم من احتفاليَّاتٍ همجيَّة إِلى احتفاليَّات فيها من السموِّ والجماليَّة ما يُظهر حقيقة الإِنسان الَّتي اختارت الآلهة أَن تنحدر من عليائها إِليه، قبل أَن يفكِّر هو بالإِرتقاء إِليها.ففكرة التساوي هذه كانت قبل أَن نعرف مقولة “وخلق الله الإِنسان على صورته ومثاله”.
لم تمُت الميتولوجيا، لكنَّها اقتربت من الروح البشريَّة أَكثر، وتحوَّلت في المسرح إِلى واحةِ لقاءٍ بعدما كانت بُعدًا وجفاءً، وأَتى الإِنسان بالآلهة إِليه بدلاً من أَن يصعد عليهم، و”تحدَّاهم” على الخشبة بالعقل والفكر والجمال، وبالتمرُّد الإِيجابيِّ المسالم. ولعلَّ ما عبَّر عنه الكاتب المسرحيُّ أَنطوان معلوف في قوله “في المسرح إِنحسرت روح الإِحتفال لصالح روح التخطّي”، تختصر كلَّ شيء.
الإحــالات:
1- Nietzshe, Friedrich, “La naissance de la tragédie », Ed. « Gallimard », France, 1978, p. 17
2– Anzieu, Didier et autres, « Bsychanalyse et culture grècque », Ed. « Les Belles Lettres », France, 1980, p. 10
3- Ibid, p. 12
4- Commelin, Pierre, « Mythologie grècque et romaine », Ed. « Garnier », Paris, 1983, p. 19
5- Ibid, p. 22
6- الحاوي، إِيليّا، “إِيسخيلوس والتراجيديا الإِغريقيَّة”، دار الكتاب اللبنانيّ، بيروت، 1980، ص. 8
7- هوميروس، “الإلياذة”، تعريب عنبرة سلام الخالدي، دار العلم للملايين، بيروت، ط. 5، 1982، ص. 20-21
8- المرجع نفسه، ص. 244
9- هوميروس، “الأُوذيسة”، تعريب عنبرة سلام الخالدي، دار العلم للملايين، بيروت، 1980، ص. 135
10- “إيسخيلوس والتراجيديا الإِغريقيّة”، م.س.، ص. 24
11- حرب، حسين، “الفكر اليونانيّ قبل أَفلاطون”، دار الفارابي، بيروت، ط. 1، 1979، ص. 10
12- المرجع السابق، ص. 19
13- Chamoux, François, “La civilisation grècque”, Ed. « Arthaud », Paris, 1ère Ed. 1963, p. 319-326
14- معلوف، أنطوان، “المدخل إِلى المأساة والفلسفة المأسويَّة”، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر، بيروت، ط. 1، 1982، ص. 24
15- المرجع نفسه، ص. 25
16- المرجع نفسه، ص. 27
17- “La civilisation grècque”, Ibid, p. 311
18- “إيسخيلوس والتراجيديا الإِغريقيَّة”، م.س.، ص. 37-38
19- ياغي, عبد الرحمن, “في الجهود المسرحيّة”, المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر, بيروت, ط 1, ص. 36
[5]* من كان والده إلهًا وأُمّه بشريةً, يكون إِلهًا, وللآلهة الخلود. أَمَّا من كانت أُمّه إِلهة وأَبوه بشريًّا يأتي نصف إِلهٍ يتمتّع بقوىً خارقةً, لكنَّه لا يبلغ الخلود.