المقدمة
ان المتتبع للحركة المسرحية في القطر العراقي، يجد بين الحين والاخر مسرحيات ظهرت على خشبة المسرح، وقد اتسمت بكل مزايا العرض المسرحي الجيد … وفكرة المؤلف ” الاديب” او احساسه، قد تغلغلت الى نفوس المشاهدين، من خلال اسلوب وفن المخرج المتمكن (المفسر والفنان)، بحيث لا يستطيع المشاهد ان يفرز المضمون عن الشكل، تماماً كوحدة عضوية مترابطة. مثل هذه المسرحيات الجيدة قليلة، واحيانا نادرة. ونجد في نفس الوقت مسرحيات تعرض على خشبة المسرح تسلب لب المتفرج، وتبهره، بكل الاعيب وآلية المخرج، وحيله، طيلة العرض المسرحي، ولكن ما ان يخرج المتفرج من القاعة يتبخر كل شيء من ذهنه، ولا يدري اي شيء حصل عليه من مشاهدة العرض المسرحي، اللهم الا المتعة، وتزجية الوقت، في حين ان ” النص المسرحي ” الذي عرض على خشبة المسرح، او يقرأه القارئ، دون مشاهدة العرض، ليجد فيه ” فكرة ” او ” إحساساً ” أو ” وجهة نظر” .. ولكنها اختفت من على خشبة المسرح، وضاعت، ولم يعثر عليها المشاهد بأي شكل من الاشكال. ولربما يجد المتشبع الذكي، في بعض النصوص الدرامية المعروفة ” العالمية منها ” مثلا، والتي تلازم الطالب في الثانوية او في الكليىة، او تصافح القارئ المتذوق للأدب والفن، فكرة تلك النصوص ومواضيعها، وحتى يقرر اسلوبها، ناهيك من ان يعرف جوهر القصة، ومغزى الحكاية فيها .. ولكنه عندما يشاهدها على خشبة المسرح، بعد تلك القراءة والتفحص، تبدو له تلك النصوص، خالية الفكرة، ميتة الحس والنبض، معدومة الذوق والجمال، وليس فيها وجهة نظر .. انها تبدو فقيرة بائسة، ميتة، لم تتجرع قطرة ماء، من ينبوع المخرج .. ولم يعالجها بلمسة يد، ولم يسبغ عليها بسحر وجمال وبتعبير آخر تعالج تلك النصوص من قبل ” مخرج ” له شخصيته المتميزة التي تجمع بين صفة الاديب، وسحر الفنان، وتوجيه القائد المحنك. وهذا نموذج آخر مما نشاهد، ويشاهد معنا المتتبع الذكي، والجمهور المسرحي، مسرحيات تنعدم فيها اصلاً ، الفكرة ” المضمون”، والشكل ” أسلوب العرض المسرحي ” والسبب في ذلك انه ليس هناك وراء الانتاج المسرحي قائد العمل .. اي المخرج، الذي لابد ان يعرف كيف يتذوق النص ويختاره .. وكيف يجب ان يقدمه، هذا نموذج رابع. ونموذج آخر، هو اننا نجد مسرحيات مقدمة على خشبة المسرح وقد افتقرت الى المضمون والشكل، لا لأن النص يفتقر الى مقوماته الدرامية، بل لأن الذي أخرج النص، لم يمتلك اية موهبة، المسرحي … فالذي لا يملك القوة، والادراك، والعملية، والحس والخيال والجمال في نفسه، فكيف يمكن ان يمد النص المسرحي بهذه المقومات والركائز الحسية والفكرية والجمالية، لكي يتنفس النص من جديد على خشبة المسرح، بروح فنية عالية. وهذا نموذج آخر … وهناك نماذج أخرى عديدة بلا شك لا مجال للتطرق اليها الان .
هذه هي الصور الواضحة والدقيقة للمسرحيات التي قدمت على خشبة المسرح في هذا القطر منذ ربع قرن او يزيد ولحد اليوم .. واذا – اردنا ان نستثني او نفرز المسرحيات الجيدة التي قدمت على المسرح عندنا – وهي قليلة ونادرة – والتي تتميز بالأصالة والامانة والابداع، فان البقية من تلك العروض الفاشلة، والمحرفة والبائسة، يكون المسؤول عنها بالدرجة الاولى، المخرج المسرحي، لان المخرج كما هو معروف هو المسؤول الاول والاخير عن الانتاج المسرحي. يكون المخرج المسرحي في احسن حالاته، عندما يكون اميناً ، ومفسراً ، ومبدعاً ، وخلافاً ، ويكون في اسوأ حالاته عندما يكون جلاداً للنص، متعالياً عليه ومتسلطاً ، او منحرفاً عن افكار المؤلف، بقصد، او بدون قصد .
نعم المخرج المسرحي هو المسؤول الاول والاخير عن العرض المسرحي، لاعتبارات عديدة، سنوردها بعد قليل، عندما نتوغل في بحثنا هذا .. ولكن اهم واجب يقع على عاتقه هو فهمه للمهمات الجسام التي لابد ان ينهض بها، بكل فهم واستيعاب ومقدرة. هذه المهمات الخطيرة تنحصر في المراحل الثلاث التالية :
- مرحلة الاكتشاف .
- مرحلة التغطية .
- مرحلة التعبير اي (التعبير الدراماتيكي) .
وحيث ان مرحلة ” الاكتشاف ” هي من اهم المراحل، في عملية الاخراج المسرحي، فإننا سنوفر مادة هذا البحث لهذه المرحلة فقط، ونتصدى لها، لان المخرج، اي مخرج مسرحي في العالم، لا يستطيع ان يبدأ خطوة واحدة في مهمته، ما لم يتمكن من هذه المرحلة بشكل كامل ودقيق … ونظراً الى ان مرحلة الاكتشاف بحد ذاتها، فيها كثير من المشاكل، التي تؤدى الى ان تأخذ بتشديد الخناق على فكر المؤلف (الاديب)، وتكاد تقتله فكراً وروحاً واسلوباً ، لذا كان لابد لنا في هذا – البحث – من ان نوضح الامور، ونشير الى المخاطر، وندعم القول بالتجربة، التي توفرت لنا من حيثيات، مستقاة من تاريخ المسرح وتاريخ الاخراج ايضا، وفي المقابل، لابد ان نذكر العكس من تلك الظاهرة، واعني (الوجه الايجابي) للعملية، لكي نعرف، كيف تسنى لمخرجين عظام، من ان يولوا هذه المرحلة (الاكتشاف) العناية الفائقة لانهم كانوا امناء مع المؤلفين، ومع انفسهم.
وطبيعي، لكي يرتكز البحث هذا، على دلائل وحيثيات ومرتكزات ومقومات، ووثائق، فكان على ان اقتص كل خبر او مادة او فقرة تفيد وتدعم هذا البحث، من المصادر الادبية والفنية العالمية والعربية الرصينة .
واملي كبير، في ان هذا البحث المتواضع، سيفيد بلا شك طلبة الفنون الدرامية في المعهد والاكاديمية، وكل من يعمل في الاخراج من شبابنا الثوري الصاعد، الذين تسلموا مهماتهم القيادية الدرامية بكل فروعها .. بالإضافة الى ان هذا البحث سيكون زاداً وعوناً لمحبي المسرح … والنقاد ايضا، وفي نفس الوقت، ومن خلال الاشارات، والدلائل، والتجارب التي وردت فيه يمكن بالمقارنة والتقصي، ان ندرك بدقة، المنهج الفعلي التطبيقي الذي تسير عليه، في عملية الاخراج المسرحي، والنتائج التي تترتب من جراء ذلك .. نعم نستطيع ان نعرف بوضوح – وبروح من التواضع، اين نقف نحن اتجاه تجارب المخرجين في العالم، قديماً وحديثاً … هل اننا جميعاً نسير في الدرب العلمي السليم، ام ان بعضاً منا يركض لاهثاً في طريق شائك محفوف بالمخاطر. ومن خلال تلقف الاجوبة لمثل هذا السؤال … وغيرها من البحث .. فلربما نجد الصورة الحقيقية لواقع الحركة المسرحية في قطرنا …
مرحلة الاكتشاف
بادي ذي بدء لابد ان نعرف، ماذا نقصد بمرحلة الاكتشاف في فن الاخراج المسرحي ؟ .. وما الذي ينبغي ان نكتشفه ؟ … وكيف نصل الى بغيتنا ؟…
ان مرحلة الاكتشاف، في عملية الاخراج المسرحي، تعني بكلمات بسيطة واضحة: ان نكشف، ونرصد بذهنية وقادة وخبرة، دقيقة، ” المعنى الاساسي في النص ” اي اننا نسعى الى معرفة، مالذي اراد المؤلف ان يقوله، او يعبر عنه، فكرة، او إحساساً ، وبتعبير آخر، ان ندرك كل الادراك ” الهدف” الذي اراد ان يوصله الينا .
وحيث ان ” الهدف” شيء يلازم الانسان منذ العصر الحجري، حتى اصبح اليوم انساناً حضارياً معاصراً … ولقد كان هناك هدف بالتأكيد للإنسان، عندما كان في الكهف، وهو يقاتل الحيوانات لكي يعيش وانه قاوم الطبيعة بكل اشكالها العاتية المدمرة، لكي يبقى، وحافظ على نوعه حتى تستمر الحياة … ومع استمرار الحياة والديمومة … فان اهداف الانسان قد تغيرت وتنوعت، ومع تطوره وتعدد حاجاته ضمن نمو مجتمعات جديدة وانظمة جديدة عبر القرون الطويلة، فانه بلا شك قد تطورت معه اهدافه وغاياته، حتى وصل الى انسان القرن العشرين الذي له اهداف معينة تختلف نوعا وكما عن اهداف انسان الكهف، او انسان الغابة. يقول الكاتب المسرحي الالماني (لسنج) في كتابه (فن التأليف المسرحي) في همبورغ عام 1769م بما يلي :
” … ان السعي في الحياة الى (هدف) هو ما يدفع الانسان فوق مرتبة الهمج .. والاختراع، وفي ذهن المخترع هدف يسعى الى تحقيقه.. بل محاكاة الانسان وفي باله هدف يسعى اليه من هدف المحاكاة، هو ما يميز الشخص العبقري، من بين الفنانين التافهين الذين لا يخترعون الا من اجل الاختراع فحسب، ويحاكون غيرهم من اجل المحاكاة نفسها ” (1) .
والهدف … أو الفكرة الاساسية للرواية (النص المسرحي) يسمى ايضا ” بالمقدمة المنطقية ” للمؤلف … اي بدون هدف، سواء كان النص المسرحي جيداً ، او تافهاً .. وعلى العموم، فان المقدمة المنطقية ملاصقة للإنسان في حركاته وسكناته .. ان وراء كل حركة او سكون لأي منا، فكرة .. مقدمة، حتى وان كانت تلك الحركة او السكون، لا تجلب النظر، او الانتباه، قد يشعر بها الانسان بوعي، او بدون وعي، ولكنها باقية، وموجودة، وازلية .
” … ان لكل شيء، فكرة او مقدمة صغرى، كما يقولون في علم المنطق، وكل ثانية من الثواني التي تتألف منها حياتنا لها مقدمتها الخاصة بها، سواء شعرنا نحن بذلك، او لم نشعر به في الوقت الذي يحدث فيه ذلك، وقد تكون هذه المقدمة بسيطة بالغة الحد في البساطة، كالتنفس مثلا، وقد تكون شيئاً معقداً بالغ الحد في التعقيد، كقرار عاطفي حيوي له خطره على حياة الانسان، الا انها مقدمة وكفى، مقدمة قائمة على الدوام، ونحن قد لا ننجح في تعليل كل من هذه المقدمات المنطقية الدقيقة، ولكن هذا لا يمكن بأي حالة من الحالات ان يغير من حقيقة هذه المقدمات شيئاً ، وانها مقدمات موجودة دائما، واننا نحاول تعليلها، واقامة الدليل عليها، وقد نحاول ان نمضي من احد جوانب الغرفة الى جانب اخر، الا ان كرسياً صغيراً لم نلق بالنا اليه، ربما عاق سبيلنا، غير ان مقدمتنا – او قل فكرنا عن اختراق نطاق الغرفة تكون لا تزال قائمة ” (2) .
فاذا كان الامر بهذه الصورة، بالنسبة الى الانسان العادي، فانه ولا شك سيكون امراً هاماً بالنسبة الى الاديب الذي ينشئ ادباً … اي انه لا يمكن بأي حال من الاحوال ان يكتب الاديب المسرحي شيئاً دون ان يختلج في ذهنه، هدف، او احساس او مقدمة منطقية، بوعي منه، او بدون وعي، بشكل صريح سافر، او بشكل خفي مبطن … حسب اسلوب الكاتب ومنهجه، والظروف التي كتب فيها النص المسرحي .
ولكي نلقي الضوء اكثر، على هذه المقدمة المنطقية التي تعج بها القواميس من تفسيراته ” للمقدمة المنطقية ” والتي جاءت على سبيل المثال في معجم ( وبستر) الدولي، والتي تقول من المقدمة :
” … قضية مفروضة ، او قام عليها الدليل سلفاً – اساس – برهان ، قضية مقررة ، او مفروض انها تؤدى الى نتيجة ” (3) .
هذا ما جاء في القاموس الدولي وبستر … اما اهل المسرح، والمشتغلون فيه من النقاد والباحثين والادباء، فقد وردت على السنتهم تعريفات او تفسيرات اخرى منها :
” … مشروع، او موضوع، او بحث، او اطروحة، او فكرة اساسية، او هدف، او غرض، او قوة دافعة، او غاية، او خطة، او عقدة، انفعال اساسي .. ” (4) .
لكن الكاتب (لاجوس ايجري) في كتابه ” فن المسرحية ” يؤكد على اختياره كلمة ” مقدمة منطقية ” لأنه يعتقد انها تشتمل على جميع العناصر التي حاولت الكلمات المذكورة اعلاه ان تصور بها معاني هذه الكلمة ” مقدمة منطقية ” ولأنها لا تدفع القارئ من ان يتعرض لسوء التأويل ” (5) .
ونظراً الى اهمية النقطة – التي تشكل جوهر البحث – فلا بد ان تلقى الاضواء اكثر فأكثر، لنتعرف على آراء الآخرين من النقاد والكتّاب :
“.. لقد كان ( فرد برونتيير ) يطالب كتَاب المسرحيات، بان يبينوا (الهدف) الذي يرمون اليه في مسرحياتهم، وان يجعلوا هذا (الهدف) نقطة البداية – وهذه هي المقدمة المنطقية ” (6) .
“.. وكان (جون هوارد لاوسون) يقول : “ان الفكرة الاساسية في المسرحية هي بداية العمل فيها. وكان يعني بهذه الفكرة الاساسية المقدمة المنطقية ..” (7) .
“.. اما الاستاذ (واندر ماثيوز) فيقول : “ان المسرحية تفتقر الى ان يكون لها موضوع، وهذا الموضوع هو المقدمة المنطقية ولا بد ” (8) .
” .. والاستاذ (جورج بيرس بيكر) يستشهد بهذه الفقرة من كلام (ديماس الابن) : “كيف يمكنك ان تذكر لنا الطريق الذي سوف تسلكه، مالم تعرف الى اين انت ذاهب ؟ ” (9)
ويختتم الكاتب والمخرج الكبير(لاجوس ايجري) قوله ، وكأنه يسدل الستار على نهاية المسرحية، فيحدد موضوعه ويقول: ” ..كل هؤلاء انما يقصدون ان يقولوا لك شيئاً واحداً وهو ان (مسرحيتك ينبغي ان يكون لها مقدمة منطقية .) ” (10) .
ولقد شغلت بال الفنان الكبير (ستانسلافسكي) مسألة البحث عن هدف الكتاب، وكيفية توصيله الى الجمهور في القاعة، ولهذا فانه قد بذل كل جهده في البحث والدراسة والاستقصاء، في تنظيره الفني الرائد، في فنون التمثيل والاخراج، بما يخدم النص المسرحي وقد حددت الطريقة الستانسلافسكية المسألة وحسمتها لصالح النص المسرحي :
” .. ان اكبر عمل للمخرج وأعظم مهمة له، هو نقل فكرة المسرحية وهدفها الى النظارة. وكان هذا انقلاباً ، فأمثال هذا النوع من المخرجين لم يكن معروفاً من قبل، وكان النجاح الذي يلحق ببعض المسرحيات يعود الى عوامل اخرى لا تتصل بنهاية معينة، او فكرة محددة لمؤلف، وكان كل عمل المخرج قديماً ان يشرح لكل ممثل، اي ديكور يقف، ومن امام اي حائط سيغادر المسرح، واين يجب عليه ان يجلس، ومتى يقف . ” (11) .
ولا عجب ان طفرة نوعية، قد احدثها الفنان الكبير (ستانسلافسكي) وزميله الفنان الكبير (دانشنكو) في ( مسرح الفن) بموسكو، في اوائل هذا القرن، عندما قفزت وظيفة الاخراج المسرحي من المرتبة الثانية الى المرتبة الاولى .
” … استطاع المخرج ان يقفز الى الامام قابضاً في يده على زمام المسرحية، والمسرح، والفن، والجمهور، وخرج المخرج الى الجمهور الروسي بشخصية حديثة للمخرج هي” المخرج المفكر ” الذي لم يكن له اثر قبل ذلك . ” (12) .
وصفة (المخرج المفكر) لم تأت عبثاً .. وانما جاءت وليدة تجارب ودراسات وبحث واستقصاء لمهمة المخرج الاساسية التي كان (ستانسلافسكي) و(دانشنكو)، وطلابهما يسعون الى تحقيقها. لقد كان (ستانسلافسكي) في ضميره ووجدانه يحترم الكاتب المسرحي احتراماً كبيراً ويسعى بكل ما عنده من قوة وموهبة وفن ان يحقق هدف الكاتب في العرض المسرحي، كان يؤمن ايماناً مطلقاً بهدف المؤلف ويكافح من اجله .
” … الهدف الاساسي للعرض المسرحي هو نقل افكار المؤلف واحاسيسه على خشبة المسرح كما هو واضح، ولذلك وجب ان يكون ذلك هو هدف الممثل ايضا، وبالتالي هدف الشخصية التي يقوم بها الممثل. وبذلك يأتي العمل الفني متفقاً ومتوازياً مع هدف العمل الادبي، وبهذا فقط يتولد العمل المسرحي الجيد وهو ما يسميه (ستانسلافسكي) ” لذة الكفاح من اجل الهدف ” (13) .
ولقد اكد (ستانسلافسكي) في دراساته العديدة، حول فكرة المؤلف وهدف ، واوضح في تنظيره المعروف في فن التمثيل والاخراج بأن اسهل طريقة لاكتشاف هدف الكاتب المسرحي هو ان يحصل بشق الانفس على ” الفكرة الحاكمة ” و” الفعل المتغلغل ” في المسرحية وكتب يقول :
” … اني اعمل كثيراً ، وحسب رأيي الذي وصلت اليه بعد تدبر، لا يوجد سوى شيئين هامين في اخر المطاف : الفكرة الحاكمة، والفعل المتغلغل، فهما الامران الاساسيان في فن التمثيل، لماذا يحبنا جمهور المتفرجين، لأننا فهمنا فكرتنا الحاكمة، وعندما لا نفهمها لا نصنع شيئاً سليماً ” . (14) .
اما المخرج الكبير (نيميروفيتش دانشنكو) زميل ورفيق (ستانسلافسكي) ، فكان هو الاخر يسير على نفس المنهج .
” … آمن (نيمروفيتش دانشنكو) بحتمية وجود هدف عام يوجه العمل في المسرحية والدور، ومن الضروري للمنهج ان يرسم صورة عامة، ولو غير واضحة تماماً لما ستكون عليه المسرحية عند بدء البروفات، وتنبع هذه الصورة من وجود هدف متكامل للمخرج او الممثل في عملهما في الدور او المسرحية، ويسمى هذا الهدف بـ ” اللب”. ففي مسرحية ” آنا كارنينا ” مثلا في مسرح الفن طلب (نيمروفيتش دانشنكو) من ممثلي الادوار الثانوية البحث عن – نماذج شخوصهم ، ضمن الجو العام الذي يسيطر على رواية تولستوي – والممثل بقسوة المجتمع والنفاق وجمود النظرة الى ظواهر الحياة . فهذا هو ” لب ” الرواية ، او ” هدفها الرئيسي ” (15) .
ولكن اذا كان لابد للمؤلف المسرحي من مقدمة منطقية او هدف، او فكرة اساسية … الخ، عندما يشرع بكتابة مسرحية، فإننا لابد ان ندرك، بأن العملية الفنية الخلاقة تمر بعدة مراحل، حتى تصل في اخر المطاف الى نص مسرحي مكتوب. وقد ذكرت لنا كتب تاريخ المسرح والادب من ان كثيراً من الكتاب المسرحيين، قد كتبوا مسرحياتهم عدة مرات، ولسنين عديدة حتى وصلت الى حالتها الاخيرة المتداولة .
ان الكاتب المسرحي الكبير ( هنريك ابسن) كان يكتب مسرحية واحدة في اغلب الاحيان في فترة ثلاث سنوات تقريباً ، كان يعمل فيها ليل نهار حتى تستقر في الاخير في شكلها النهائي، ولا عجب في ذلك .
” … ان العملية على العموم عملية ايحاء وتخمر والارجح انها دون ان يدري الكاتب المسرحي، بذرة تزرع في نفسه، ثم تؤتي اكلها اخر الامر ” (16) .
فاذا كان الامر على هذه الشاكلة … واحيانا تتعقد الامور اكثر فاكثر فتأخذ عملية الخلق الفني سلسلة من العمليات العسيرة الشاقة. يبذل الكاتب كل جهده وطاقته، منذ لمعان وميض الفكرة الاولية في ذهنه وخياله، حتى تتم الولادة الفنية الكاملة، فانه لابد ان نشير الى ان وراء كل عمل خلاق … وراء اية فكرة. او هدف، باعث، او حافز .
” … او بواعث الخلق كثيراً ما تتعدد عند الفنان: قد يكون هذا المصدر تجربة، او شيئاً سمعه، او قرأه او تذكر فجائياً لمكان زاره، او قصيدة، او قطعة موسيقية، او وجها رآه في خضم المحيط المتدفق من وجوه الجماهير، ولم يره ابداً بعد ذلك، تستطيع اي صورة او فكرة، او احساس، او علاقة تجرى في حياة انسانية، ان تقدم تجربة جمالية تدفع الفنان الى العمل ” (17) .
ويمكن ان نشير – كمثال فقط – كيف كتب ” ابسن ” مسرحيته الكبيرة (هيدا جابلر) بعد ان قرأ خبراً في صحيفة … هذا الخبر كان بمثابة الومضة الاولى التي اشتعلت في ذهنه وخياله .
” … ان ابسن فكر في كتابة (هيدا جابلر) عقب قراءته نبأ في احدى الصحف عن امرأة انتحرت لمجرد ان الملل قد استبد بها، فاذا قارنا هذا النبأ بما يحدث في المسرحية، لوجدنا ان (ابسن) قد امسك هذا الموقف الحافل بالممكنات الدرامية، واطبق عليه بيد من حديد، ثم راح يحدد ويخطط الشخصيات والحوادث النفسية والعاطفية والاجتماعية، التي يمكن ان تؤدى بإمرأة الى الانتحار هربا من الملل، فجاء بناؤه الشخصية الرئيسية بالغ الاقناع، ونجح كل النجاح في ان يجعل القدر الذي يؤدى بـ (هيدا جابلر) الى التهلكة متمثلا في بنائها الفكري والعاطفية والاجتماعية، التي يمكن ان تؤدي بإمرأة الى الانتحار وما ان يلتمع وميض الفكرة في ذهن الكاتب المسرحي، حتى يبدأ بالعمل، وبمراحل عديدة وقتاً طويلاً ، يختلف من كاتب الى آخر.
” ان جرثومة الفكرة التي تقوم عليها المسرحية لا تكاد تتولد حتى يشرع كتاب كثيرون في عملية الكتابة، وذلك بتطوير الشخصيات. وتقول ( راشيل كروثوس ) بهذه المناسبة (انها تعلمت بالتجربة ان الفكرة تأتي اولا ثم تأتي الشخصيات بعد الفكرة، ثم تأتي القصة بعد هذا كله ” (18) .
ويعبر بعض الكتّاب في المسرح، عن الهدف، او المقدمة المنطقية، بشكل اخر، تؤدى في النهاية الى نفس النتيجة من تلمس المعنى.
” …. ان كل عمل من الاعمال الفنية يعبر عن (وجهة نظر) والفنان في معالجته لمادته التي قد تكون هي نفس المادة التي يعالجها فنانون آخرون، انما يعالجها بطريقته الخاصة، انه يحاول ان يعبر عن شيء ما، والمادة تتشكل في يديه، سواءاً كانت ادهنة، ام صلصالا، ام كلاما، لكي تقرر وجهة نظر. ووجهة النظر هذه … هذه الصورة الذهنية الكامنة هي التي تهب العمل الفني في مجموعة الوحدة والترابط، وبدون هذا العنصر الرابط، لم يكن ممكناً ان يكون ثمة (هدف) ولا (معنى) للعمل الفني (19) .
وقد تتعقد عملية البحث والاستقصاء عن الدوافع الحقيقية التي تدفع كاتباً ما الى كتابة (نص المسرحية) الذي كان يبغي من ورائه هدفاً او فكرة … او احساساً ما .. ولعل خير طريقة للوصول الى الدافع الحقيقي هو اجراء التحليل النفسي للكاتب نفسه … اذ ان تلافيف العقل الباطن، يمكن ان تمد الكاتب بأشياء كثيرة فتكون بمثابة محرك، لفرز كثير من الحكايات والمشاعر والاحاسيس والمواقف التي استقرت في دهاليز اللاوعي .
” … ان الكاتب المسرحي يشع تشكيلة لحكايات افكاره هو بالذات .. نظرته هو نفسه الى الاشياء والحوادث وتشكيل المادة وفقاً لأصول وخطوط خاصة هو على الارجح عملية من عمليات العقل الباطن ” (20) .
ومما لا شك في ان الكاتب المسرحي، هو انسان مجتمعه يحس بكل ما يتفاعل فيه، من حركة، او نهوض، او نكوص، ولابد لهذا الكاتب من ان يقول شيئاً يتمشى مع وجهة نظره، وافكاره وموقفه من الانسان، والحياة، والطبيعة، والنظام الذي يعيش فيه، انه يتأثر ويؤثر، انه احياناً يضع الدواء على الجرح.. او يفسر ويحلل الظواهر الاجتماعية والنفسية لأفراد مجتمعه، واحيانا يضع المقترحات والحلول لتلك المشاكل .. واحياناً يبشر بأفكار جديدة وجريئة يسبق زمنه وعصره … ومن خلال الرصد الدقيق والتعمق .. والدراسة والبحث .. والمشاركة الحقيقية، ينتج الكاتب المسرحي أعماله الفنية الخالدة، عندما تتوفر لديه الادوات الفنية المطلوبة كـ(شكل وبناء وصياغة), والهدف كله ان يوصل الكاتب رسالته الى الناس .
” … ان نظرة الكاتب المسرحي الى مادته هي نتيجة لما ورثه، وتأصل فيه، ولتأثره بالحضارة والمجتمع الذي يعيش فيه. والمجتمع الحديث مجتمع اخلاقي، ونتيجة لهذا المجتمع لا يجد الكاتب مهرباً من ان يعكس الأفكار والمعتقدات الاساسية لذلك المجتمع، وقد بدا هذا كله عندما اصبح الانسان انساناً متحضراً ، وعندما تعلم كيف يحيا حياة جماعية، وفي حدود هذا المعنى يضمن الكاتب مسرحيته، الى عمله الفني، رسالة الرسالات، او فكرة من الافكار ” (21) .
اذن هدف الكاتب، هو العصارة الذهنية والحسية الاخرى – عندما تكون المواضيع والطرح الذي يطرحه الكاتب المسرحي يتسم بالشمولية والانسانية وعلى مدى الزمن والدهر. هذه العصارة تشبه رحيق الحياة التي تغذي شجرة المجتمع والبشرية.
” … الفتاة : وكيف يعبر المخرج عن هذا الفعل في الاخراج المسرحي؟ انا (المخرج أو الاستاذ) : عن طريق ترجمة المسرحية، وعن طريق الربط العبقري بين الافعال الصغرى والثانوية والتكميلية التي تضمن له تلك الترجمة.
الفتاة : وماذا ينتظر من الممثل هذه الحالة ؟
انا : ان يتمشى مع الفعل الحركي في الطبيعة، ذلك القانون الثلاثي الذي ترينه ممثلاً في تلك الشجرة .
اولاً … الجذع الرئيسي، اي الفكرة، او الغاية، وهي في المسرح تأتي من المخرج، ثانياً … الفروع، اي عناصر الفكرة – او جزئيات الغاية، وهنا تأتي من الممثل. ثالثا .. الاوراق، اي النتيجة للعنصرين السابقين اي التقديم البارع للفكرة، او النتيجة المشرفة للغاية المنطقية السابقة .
الفتاة : واين المؤلف من كل هذا ؟
انا : انه العصارة التي تتدفق وتغذي الجميع (22) .
ومن خلال هذا الاستعراض، نجد ان الكاتب المسرحي، انسان يعيش نفسه ومجتمعه والانسانية، يعيش كل ما يحيط به من تناقضات، وما يتفاعل في نفسه من اشياء قد يحسها بوعي، اولا يحسها، وانمار يفرز اللاوعي خميرته الكامنة في اعماق عقله الباطن. ولكن وحسب قواعد النطق، كما قلنا سابقاً ، لابد ان تكون لكل حركة هدفاً ، لذا فانه من المستحيل ان يكتب الكاتب شيئاً ، دون ان يكون من وراء كتابته باعث حقيقي .. هدف .. احساس .. انفعال اساسي .. وجهة نظر ..الخ، ومهما يكن الامر .. فان النتيجة تكون : ان الكاتب يفرز مادته .. تسطر على صفحات … يجمعها غلاف عليه عنوان (النص المسرحي) .
كيف يكتشف المخرج ، الفكر الاساس، او هدف الكاتب المسرحي ؟
المخرج المسرحي كما قلنا، ومن خلال الاستعراض السابق، ينبغي له ان يكتشف ما الذي يريد المؤلف ان يقوله، بوعي او بدون وعي، فكيف يصل الى غايته؟ كيف يتوغل في غاية ذهنه؟ … كثرة الاحراش والادغال، متشابكة الاغصان، تهتز الارض تحت قدميه في كل خطوة، ويتعرض له من وراء كل شجرة، او زاوية، حيوان مفترس جائع … ناهيك عن المخاطر الاخرى التي لا تعد ولا تحصى كيف يمكن للصياد البحري الذي يبحث عن اللؤلؤ في اعماق البحر … من ان يحصل على صيده الوفير … اليس يخاطر بنفسه ويعرضها للخطر، ايما خطر ..! حتى يجد الصدفة المغلفة بالأتربة والصخور في اعماق الاعماق من البحر الغادر … ولا يد له من ان ينتشل الصدفة برفق ومهارة وحذر، ثم يصعد بها الى سط الماء، ليستقبل اليابسة وهو يحمل صيده الثمين، تماماً كالأب الحنون الذي يحمل طفله الوحيد بحنان وخوف وقلق، وهو فخور بطفله وبنفسه في آن واحد.
هذا الانسان (الصياد) الذي يجوب الغابة باحثاً عن صيده المطلوب، وهو المخرج المسرحي … وصيد الغابة الثمين … وصيد البحر الغالي (اللؤلؤ) هو الاكتشاف … اكتشاف الفكر الاساس للمؤلف .. الهدف الكلي .. او مقدمته المنطقية .. او احساسه الكامل، او وجهة نظره. فاذا كانت الصورة الحسية والوصفية لعملية البحث والاكتشاف بهذا الشكل، فكيف يمكن لنا، بصورة فعلية او عملية ان نترسم الخطى، ونسير على الدرب الصحيح، لكيف تكشف هدف المؤلف ؟ … اي ما هي الخطوات التي لابد ان نسير عليها في عملية الاكتشاف ؟
القراءة الجيدة
نعم .. القراءة .. ثم القراءة .. ثم القراءة (على شرط ان تكون قراءة جيدة ودقيقة)، وللقراءة اصول .. وسبل عديدة لإدراك ما في (النص) من معنى، او هدف … وقد يعتقد بعض الذين لم يتمرسوا بعد في عملية (الاخراج المسرحي)، ان اكتشاف الفكرة شيء بسيط .. وبسيط جدا .. اي انه بمجرد قراءة سريعة وخاطفة، لأي نص مسرحي، يمكن ان تكتشف الفكرة، ولكن الحقيقة ان المسألة هي اصعب مما ذكرناه وانما لم نبالغ او نهول الامر، ويكفي ان ندل على ذلك، حينما تقتطف مقطعا من المحاورة الاولى للمخرج العالمي الكبير (جوردون كريج) احد المخرجين والمنظرين العظام في هذا القرن.
” …. ففي وسعنا ان نستمر في الحديث عن الطريقة التي ينتهجها مدير المسرح (المخرج) في اخراج المسرحية اخراجاً صادقاً … ولقد ذكرت انه يقسم ليلتز من الاصل (النص) التزاماً دقيقاً ، وان اول اعماله هو ان يكتب على (قراءة المسرحية) (النص) ويقف على اعظم ما ينطبع منها في نفسه، وان يشرح في اثناء القراءة كلما ذكرت في تحسس لو الرواية (النص) وضبط ايقاعها، واسلوب ادائها، وما الى ذلك كله، وعليه بعد ذلك ان يطرح الرواية الى حين، ثم يتخذ من بصيرته صفحة لمزج الوانه – اذا جاز ان نستعمل هنا شيئاً من تعبيرات المصورين – حتى يحصل على الالوان التي انطبعت في ذهنه من قراءة الرواية. وهو من اجل هذا سوف يجد نفسه، اذا جلس لقراءتها ” مرة ثانية ” محوطاً بالجو الذي يرتئي ان يستعمله …
وفي نهاية هذه القراءة الثانية يجد ان انطباعاته الاكثر تحديداً قد اكتسبت تثبيتاً واضحاً لا يمكن ان يخطئ وجه الحق فيه، وان بعض انطباعاته التي كانت اقل وضوحاً قد اختفت .. ثم يأخذ في تسجيل هذه الانطباعات، ومن الممكن ان يبدأ الان في تخير الخطوط والالوان، وبعض المناظر والافكار التي تزحم رأسه، الا انه من المستحسن تأجيل هذا كله حتى يكون قد فرغ من قراءة الرواية ” اثنتي عشرة مرة على الاقل . ” (23)
هذا هو رأي (جوردون كريج)، الذي يعتبر من بين طليعة المخرجين الكبار في القرن العشرين … اذا كان هذا المخرج الكبير يفضل ان تقرأ المسرحية (النص) اثنتي عشرة مرة على الاقل، وعلى الاقل يعني، الحد الادنى .. اي انه يفضل ان تكون القراءات اكثر من الرقم الذي حدده فأي ضوء يمكن ان يسلطه هذا الرأي، على جدوى القراءة للمخرج المسرحي، مهما كانت قيمته وخبرته … واية حقيقة، لسوف تتكشف عن نفسها، عندما تعلم، ونرى، ونسمع عن مخرج يمارس عمله في الوسط المسرحي عندنا، ما ان يسند اليه النص – والنص الجديد غير معروف – حتى يبدأ في اليوم التالي بالتمارين المسرحية، فوراً ، دون قراءة جيدة وفحص دقيق وتمحيص مطلوب، حتى يتشبع بالنص ويسير اغواره، ما الذي اكتشفه هذا المخرج … عن المؤلف، والمسرحية (النص) وكل ما يدور فيها ( انها ظاهرة – لان امثال هذا المخرج يتوفر لدينا في الساحة المسرحية، مع الاسف – هذه الظاهرة اقل ما يقال عنها، تعكس عدم احترام للمهنة والعاملين معه .. وللجمهور ايضا، لأنه صاحب المصلحة الحقيقية في النتيجة .. انه المتلقي الذي لابد ان يعطى له شيء خير ومفيد ومدروس .
اذكر مرة ـ وانا اعمل اثناء دراستي المسرحية في امريكا – كبطل لمسرحية المليونيرة، من اخراج الدكتور جون رايخ على مسرح كودمان ثيتر في شيكاغو … المسرحية من تأليف الكاتب الكبير برناردشو، وكان مقرراً حسب المنهج – ان تكون المسرحية، هي الانتاج الاول لذلك العام 1963-1964م، وبدأنا بالعمل عند بدء الدراسة 15/9/1963م، ولقد فوجئت آنذاك، عندما اتحفنا المخرج – وهو من كبار المخرجين المعروفين في امريكا – بعشرات من الاوراق المطبوعة على الالة الكاتبة والمسحوبة، وفيها دراسة كاملة عن الكاتب برناردشو … قام بها المخرج في الصيف المنصرم لذلك العام، قبل بدء التمارين بعدة اشهر … دراسة شاملة كاملة لازلت احتفظ بها، يذكر في دراسته عن المؤلف، وفلسفته، واسلوبه، ولغته، ومسرحياته، وبتركيز اكثر عن المسرحية التي نعمل بها .. كل شيء كان واضحاً في اوراقه المعدة مسبقاً ، ومع ذلك، فقد افرد جلسات عديدة للدراسة الجماعية، رغم ان فترة الانتاج يجب ان لا تزيد عن شهرين، وبالفعل بعد مرور شهرين كانت المسرحية معروضة على خشبة المسرح .. كان يعتز كثيراً بتحضيره للمسرحية، ومع ذلك كان يطلب منا يومياً ولفترة اسبوع ان نقرأ المسرحية، ثم نقرأ، ثم نقرأ .. كان يطلب منا ان نحفر بقراءتنا اديم النص بمعاول حادة لا ترحم .. كان يردد دائماً معنا .. اقرأ .. ثم اقرأ .. ثم اقرأ .. لكي نستطيع ان نحفر.. ونحفر.. ونحفر حتى نحصل على الكنز .. ويقصد بذلك (هدف المسرحية) او (مقدمتها المنطقية) .
والقراءة ” فن ” بلا شك .. والقارئ المثقف، غير القارئ العادي، القارئ المثقف، يقترب من المخرج المسرحي من حيث وفرة مادته الادبية، لأن المخرج المسرحي، المفروض فيه ان يكون بالإضافة الى فنه وقدراته ومهارته وشخصيته، وخياله، انساناً ومثقفاً .. وان يتوفر لديه مخزون كبير من الادب .. والثقافة والادراك النير ..ولذا، فعندما يقرأ المخرج المسرحي (النص) يقرأه كأديب مثقف وبدون هذه الثقافة الثروة الرصينة لا يستطيع ان يحصل الى هدف الكاتب المسرحي، خاصة وهو يتعامل مع اعظم الكتاب والشعراء من المسرحيين منذ بدء الدراما حتى هذا الوقت. اذن .. القراءة (فن) واصول .. ولها قواعد وطرق لابد من الالمام بها .
” … وقد اجمل ” أميل فاجيه ” نفسه اصول القراءة النظرية في كتابه المشهور المسمى (فن القراءة) والقراءة الجيدة، هي بالبداهة اول مرحلة للنقد، وجودة القراءة سرها في ثقافة القارئ، فبمقدار ثقافته سيعثر عند كبار الكتاب على اضعاف ما يعثر به القارئ الفقر الثقافة، لان كبار الكتّاب يوحون عادة اكثر مما يفصحون، ولا يمكن ان يتم نفع القارئ بما يقرأ الا اذا استطاع تسقيط ذلك الوحي او الايحاء ” (24) .
” … يتلقى المخرج عادة نص المسرحية من صاحب المسرح، ثم يتعهد بالإشراف على اخراجها على المسرح، وهو حين يقرأ المسرحية يكون ناقداً ومشاهداً لعمل فني مازال في مجال الخيال، وتعد انطباعاته الاولى من القراءة اكثر اهمية من انطباعات الناقد الذي يشاهد تمثيلها اخيراً ، وهو لن يجد في المسرحية اكثر مما يسمح به احساسه بها، وبالتالي فهو لن يستطيع ان يقدم اكثر مما شعر به، ومع ذلك يرتفع دوره عند تقديم المسرحية الى مستوى المساهمة في خلقها .” (25)
(ترجمة النص دراميا بعد القراءة)
ويقرأ المخرج المسرحي النص، كمترجم للدراما، وكحلقة وصل بين المؤلف والعاملين في الانتاج المسرحي، من ممثلين وفنانين على اختلاف اعمالهم الابداعية … صحيح ان المؤلف هو خير من يدرك خفايا عمله الادبي .. ولكنه لا يستطيع في اغلب الاحوال ان يوصل الى الممثلين والعاملين في الانتاج، المعنى، او المغزى المطلوب، مشغوفاً بتفسير دراماتيكي يثير ذهن الممثل ويحركه، ويقربه الى روح النص وجوهره، نفس الشيء بالنسبة الى بقية العاملين في الانتاج لتوصيل الهدف .. وترجمة لكل الفنون الابداعية التي يوجهها ويدبرها في انسجام وترابط تام .
” … لذلك كان من الطبيعي ان يفضل الممثلون لإرشادهم، احد رجال المسرح، ممن يفهمون اصول فنه، وعلى هذا الاساس يتحدد مكان المخرج … ويصبح خير وسيط بين المؤلف والممثلين. وقد لا ينال قائد العزف في عالم الموسيقى، ولكنه لا يقل عنه اهمية وخطورة . ” (26) .
شيء عــــــن الفكـــــــــرة الجــــيـــــــدة في النص المســـــــــرحي .
ولابد لنا من ان نضيف ان الفكرة في المسرحية الجيدة، لابد ان تكون واضحة المعالم، سليمة التكوين، ولكنها ليست سائبة متحررة، دون ان تسندها قيم دراماتيكية. ان الفكرة الجيدة في المسرحية لا تعيش الفراغ، او هائمة في الفضاء، انها مرتبطة بقيم دراماتيكية في النص اصلاً ، كالشخصية مثلا، التي رسمت من قبل المؤلف بشكل متين وسليم ومقنع .
” … والفكرة الجيدة لا تكون في اي صورها الادبية، الا فكرة جيدة، ولكن ما هي الفكرة الجيدة، مهما تكن الصورة الادبية التي اودعت فيها ؟ .. انها ” بذرة ” لا اكثر ولا اقل. والامر موكول اليك بعد هذا لتخلق منها شيئاً ، فاذكر ان أية فكرة لم تتهيأ لها الشخصيات ذات الابعاد الثلاثة، هي فكرة لا تساوي مليماً صدئاً . ” (27) .
وبالإضافة الى ذلك، فان اي فكرة جيدة في مسرحية جيدة، ينبغي ان تحمل في ثناياها من القوة والدفع والوضوح، بقدر كاف. لتحقيق الهدف الذي ترمي اليه .
” … ان اية فكرة من الافكار، او اي موقف من المواقف لا يبلغان من القوة، القدر الكافي، لان ينتهي بك الى نتيجتها المنطقية المعقولة، او الفكرة الاساسية الواضحة التي لا غموض فيها ولا التواء . “ (28) .
ويمكننا ان نؤكد ان الفكرة الواضحة، التي لا غموض فيها ولا التواء، ليس كافياً لها ان يجعل من المادة الخام (النص المسرحي) شيئاً له قيمة درامية كبيرة، اذ لابد من مقدمة منطقية ” فعالة ” .
” … ولا يذهبن بك الظن الى ان كل رواية (نص مسرحي) اخرجت على المسرح، تشتمل على مقدمة منطقية، واضحة محدودة، وان كانت فكرة وراء كل رواية، فمسرحية (موسيقى الليل) لكاتبها (كليفورد اودتس)، تشتمل على هذه المقدمة المنطقية – ( يحب على الشباب ان يواجهوا الدنيا بقلوب جريئة) – فهذه فكرة، الا انها ليست مقدمة منطقية (فعالة) (واضحة الهدف) . ” (29) (30) .
فكــــــــــــــرة واحـــــــــــــــــدة … ام فكـــــــــــرتان .. ام اكثــــــــــــــــــــــــــــر .
ومن الجدير بالذكر، ان الفاحص الناقد، والمخرج، قد يجد في (نص مسرحي) اكثر من مقدمة منطقية .. فهل يمكن ذلك ؟ .. يجيب العلامة المخرج (لاجوس اجري) على هذا السؤال، ويضع النقاط على الحروف .
” … هل ممكن كتابة مسرحية ذات مقدمتين منطقيتين؟ هذا ممكن .. هذا ممكن .. الا ان مسرحية، من هذا القبيل تستطيع ان تسير في اتجاهين مختلفين في وقت واحد. ان الكاتب المسرحي يجد من العناء ما فيه الكفاية لكي يقيم حجته على فكرة اساسية واحدة، فكيف به امام فكرتين او ثلاث؟ ان المسرحية التي تشتمل على اكثر من فكرة واحدة لا يمكن الا ان يسودها التشويش والاضطراب. (31)
حدود المخرج باتجاه النص
ان المخرج المسرحي المعاصر، يجد احياناً بوحي من – باعثه الفني الخاص به – وهو يتعامل مع المادة الخام (النص المسرحي) وسائل عديدة، للتركيز والتأكيد والتوضيح لهدف الكاتب المسرحي، حتى انه احياناً – بطريقة واخرى – يساعد كثيراً في تجسيد فكرة المؤلف ويصبح مساهماً في خلقها الى درجة تبهر المؤلف نفسه، ولكن هذه المساهمة الفعالة مشروطة بلا شك .
” … يمكن اعتبار المخرج الى حد ما مجرد جزء من اداة الكاتب المسرحي، لأنه أحد الوسطاء الذين يسهمون في اكمال التجسيد (الخارجي) الذي يقدمه الكاتب في النص. ولكن يمكن اعتبار المسرحية اكثر من مجرد عمل وظيفي بالنسبة له. انها (استجابة لحاجة عنده )، (لإحساس يتوحد مع مادة الكاتب المسرحي)، بل (يستخدم هذه المادة للتعبير عن باعثه الفني الخاص به)، ويقوم المخرج في حالة العمل في مسرحية جديدة بالكثير من العمل الاولي في النص ذاته، فيساعد الكاتب على تأكيد بعض النقاط، وتحويل البعض الاخر الى نقاط فرعية، وعلى التوضيح والابراز وتجنب التكرار. وتصبح مساهمته عملية خلق مسرحية جديدة عظيمة الى درجة ان اسمه يجب ان يظهر بجانب اسم مؤلف المسرحية باعتباره مسهماً في التأليف. حدث هذا عند (جورج . س . كوفمان). وحتى عن اخراجه لنص مكتمل، فان تأثير المخرج على العناصر الاخرى من عناصر التعبير (يمكن ان يتحول الى شيء مدمر) الا اذا وجد في النص ذاته محور فكرة او احساساً متمشياً مع الكاتب المسرحي ويريد هو بنفسه التعبير عنه .” (32) .
” … ان تجربة المخرج الجمالية هي اتحاد شيء في النص مع شيء احس هو بحاجته الى التعبير عنه. وبهذا المعنى يمكن اعتبار المخرج فناناً ” (33) .
ادراك الاثــــــر الكلي يساعد على فهـــــــم ” الهــــــــــدف” .
وطالما نحن في سبيلنا الى اكتشاف الهدف في النص المسرحي، فلابد ان نضع اصبعنا على الوسيلة التي يمكن ان نتوصل بها الى غايتنا. فبعد ان اوضحنا ان القراءة الجيدة، ولعدة مرات تفتح لنا الطريق، او تكون بمثابة المفتاح الذي نستعمله لفتح الباب على مصراعيه، لاكتشاف ما نرمي اليه، يؤكد البعض بأن ” ادراك الاثر الكلي للنص المسرحي”، شيء مهم في مرحلة الاكتشاف، بل هي وسيلة قاطعة لمرحلة الاكتشاف .
” … لا يمكننا ان نتعرض لمعنى اية مسرحية من المسرحيات دون ان نحاول ادراك الاثر الكلي لتلك المسرحية، وحكمنا على اي كاتب مسرحي ينبغي ان يكون اساسه هو الاثر الكلي الذي تتركه مسرحيته فينا، والذي تتضافر كل اجراء المسرحية في ابرازه . ” (34) .
وادراك الاثر الكلي للنص المسرحي، يأتي من قوة الدفع والتأثير للقيم الدراماتيكية في النص، وهي معروفة اكاديمياً : البذرة (الفكرة ) والشخصية، والعقدة، والحوار، والجو النفسي العام، وتأثيرات حسية وجمالية فريدة وغريبة وجديدة .
هذه القيم الدراماتيكية في النص المسرحي، كامنه في تضاعيفه، ولابد من التنقيب عنها، وفحصها بدقة، وادراكها بشكل علمي. ولا يمكن بأي حال من الاحوال ان تكون اية مسرحية جيدة خالية من هذه القيم … صحيح انه يمكن ان تكون قيمة دراماتيكية في نص مسرحي اغنى واعمق واوفر من قيمة اخرى في نفس النص، ولكنها لابد ان تتظافر مع البقية من القيم لكي يتوفر نص مسرحي فيه مقوماته الدرامية الاساسية، ما اذا افتقر نص مسرحي الى جميع القيم الدراماتيكية او بعضها فان ذلك الاثر لا يمكن ان يدرج تحت قائمة النصوص المسرحية (35) .
ما لم تدرك الكل لا تعرف الجزء
وطالما نحن في صدد ادراك الاثر الكلي للمسرحية، ونحن نقوم بمرحلة الاكتشاف وصولاً للهدف، فان ثمة آراء اخرى لها نصيب كبير من الحقيقة، تؤكد انه لا يمكننا من ان نفهم الهدف الرئيسي، من اية مسرحية لأي كاتب، ما لم نستوعب جميع اعماله الدرامية، لان هناك وحدة عضوية مترابطة بين اعمال الكاتب، ولذا فان في استيعاب وفهم ” الكل ” يمكن السيطرة ببساطة على ” الجزء ” … اي على الاثر الدرامي الواحد .
” … اما اعادة التقييم التي انشدها، فتتأسس على الوحدة الجوهرية لأعمال (ابسن) وهي وحدة تصادف ابن (ابسن) نفسه اصر عليها دواما .. ان ما قاله (إليوت) عن شكسبير يصح قوله ايضا عن (ابسن) ” يمكننا ان – نقول باطمئنان ان المعنى الكامل لأي من تمثيلياته ليس كافياً فيها بمفردها، ولكن في تلك المسرحية التي كتبت هذه في ظل منهجها، في العلاقة بينها وبين كل مسرحياته الاخرى المبكرة منها والاخيرة. ان علينا ان نعرف اعماله كلها حتى نستطيع ان نعرف أياً منها ” (36) .
القيـــم العقــليــــة والعاطفيـــة والمجـــردة ، والاكتـشــــاف .
وهناك طريقة اخرى، غير منفصلة عن النص المسرحي، يمكن بواسطتها ان نفهم .. وان نكتشف .. وذلك بأن نجري فحصاً دقيقاً للمادة الدرامية المتوفرة في النص، لا من حيث القيم الدراماتيكية التي اشرنا اليها … وانما نبحث عن قيم اخرى .. كالقيمة العقلية ” الفلسفية، والاخلاقية، والثقافية ” والقيمة العاطفية ” التي تعتبر في بعض المدارس والاتجاهات الفنية اساس الجاذبية في المسرح ” والقيمة المجردة في النص كـ ” الجمال .. كل ما يجذب السمع كالشعر والموسيقى ” او يجذب الذهن ” كالاطار الفني والايقاع ” (37) .
حياة المؤلف .. والاكتشاف
ومن المسلم به .. اننا اذا اردنا ان نستوعب هدف المؤلف وفكرته .. فلابد من دراسته هو اولا .. وطبيعي ان دراسة المؤلف المسرحي تحتم على المخرج الامين ان يدرس كل ما يتعلق به منذ ولادته .. وتربيته .. والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عاش فيها .. ان دراسة المؤلف اعمق بكثير من دراسة الشخصية المسرحية … انه يتطلب جهداً كبيراً ومتواصلا .. فلابد من دراسته من النواحي الفكرية والعاطفية والجسمانية وكل ما يتعلق به خارجياً وداخلياً .. انه يتطلب ايضا دراسته من حيث انتمائه للأرض – الوطن والامة – القومية، وحب البشرية جمعاء – الانسانية – ولابد من معرفة انتمائه الطبقي، اين كان يقف من الصراعات … وما هي وجهة نظره للحياة .. والمجتمع والانسانية .. يمكن ان نبدأ بأصغر خلية (الاسرة) وننطلق ابعد فأبعد ونشمل البشرية بأجمعها .. ولقد قام ستانسلافسكي بمجهود كبير عندما أخرج ” النفوس الميتة ” لغوغول … لقد بحث هو عن (غوغول) وطلب من طلابه (الممثلين) ان يعرفوا كل شيء عن المؤلف ، وما كتبه عنه الدارسون والنقاد .
” … وينقلنا (ف.توبوركوف) الى ذكرياته مع استاذه ستانسلافسكي قبل ان يُخرج لهم ” النفوس الميتة ” يقرأون كل ما كتب عن (غوغول)، ويزورون المتاحف سعياً وراء فحص اللوحات التي رسمت له، واعماله الادبية وخطاباته .. وكيف نظم لهم المحاضرات وحدثهم عن شخصية (غوغول) وفلسفته ومعاصريه، وحتى عن علاقاته الخاصة. وبالرغم من كل ذلك، فقد قال لهم ستانسلافسكي قبل عرض المسرحية. ” احس ان المسرحية ليست جاهزة للعرض تماماً ، فليست هذه بعد هي (النفوس الميتة) ولا هذا هو فن (غوغول). ولكن ما اراه امامي – بالرغم من ذلك – يجعلني اشعر انكم سوف تنجحون في عرض (جوجول) مستقبلا. فاستمروا على هذا الدرب وسوف تصلون الى (غوغول)، وان كان ذلك يحتاج الى وقت ليس بالقصير … ثم التفت الى (توبوركوف) قائلاً : ” لقد تحسن اداؤك، ولكن لن تمضي اقل من خمس سنوات قبل ان تستطيع لعب (تشتيشيكوف) كما رسمه (غوغول) ، وعشرون سنة حتى نتذوق (غوغول) كما ينبغي ” (38) .
معرفة فن الكاتب المسرحي .. طريق جيد الى الاكتشاف
والطريقة الاخرى في اكتشاف هدف الكاتب في النص المسرحي، هو معرفة ” فن الكاتب المسرحي ” نفسه . ان معرفة فين الكاتب المسرحي، بلا شك سوف يسهل على المخرج ان يفهم تكنيك (فن الكاتب المسرحي ) … ان يفهم خفايا واسرار عمله الفني .. البناء الفني، اسلوبه .. لغته .. مهارته .. حيله الفنية لمواضيعه .. هذه الامور اذا ما تمكن منها المخرج في الفهم والاستيعاب، فانه سيتوصل بسهولة الى الهدف .. او الفكرة الاساس، او الاحساس الاساس. والعكس من ذلك يؤدي بالمخرج من ان يكون بعيداً عن الهدف .
” … لقد كان ستانسلافسكي يرى ان الكاتب المسرحي هو الوحيد الذي يشرع القوانين على خشبة المسرح ، ولكن ستانسلافسكي ، لسوء الحظ لم يعرف شيئاً عن قوانين الدراما . لقد كانت بالنسبة له مسرحية (بستان الكرز) ولم يدرك ابداً ان مسرحية (تورجينيف) ليست الا قصة قصيرة في صورة حوار ، بينما كانت كوميديا (تشيخوف) من صنع كاتب مسرحي عبقري . ” (39) .
” … لقد علق (تشيخوف) على اخراج ستانسلافسكي لمسرحية (بستان الكرز) بعد ان حولها الى مأساة – بقوله : ” لقد دمر ستانسلافسكي المسرحية بالنسبة لي ” …. لماذا تهيج تشيخوف الى هذا الحد؟ مالذي ادى الى هذا الصدام بينه وبين ستانسلافسكي ؟ ويوضح اخراج مسرحية (بستان الكرز) على النحو السائد الان في مسرح الفن بموسكو ، وضوحاً كافياً ان السبب الرئيسي لهذه المعارك هو فشل (ستانسلافسكي) في فهم (تشيخوف) ككاتب مسرحي ” (40) .
ويذهب المخرج المسرحي المعروف (لي ستراسبورغ) ابعد من ذلك ، اذ يعتقد ان جميع العاملين في الانتاج ينبغي ان يعرفوا فن المسرحي حتى يستطيعوا تباين الهدف … وخاصة بالنسبة الى الممثل .
” … اية فائدة للممثل ؟! الا اذا فهم اولا (فن الكاتب المسرحي) وهذا لا يتحقق الا من خلال دراسة مستفيضة لتكنيك كاتب المسرح . وتمهل المدارس والمناهج المختلفة في التمثيل مثل هذه الدراسة ، وطالما الامر هكذا فلا يمكن ان يفيد اي قدر من التدريب التكنيكي في فن التمثيل لتحقيق تفسير سليم لأحدى روائع المسرح ” (41) .
فاذا كان (ستانسلافسكي) الفنان المسرحي الكبير الذي عرف عنه بأنه يؤمن بالمؤلف ايماناً عظيماً ، ويعتبر العبقري (تشيخوف) لأنه لم يكن ملماً ودارياً بفن الدراما بشكل دقيق ، فأية مخاطر يمكن ان يرتكبها اي مخرج من جيلنا – اذا لم يتزود بفنون الدراما بشكل دقيق – اتجاه الاعمال الدرامية لكثير من الكتاب العظام ؟ … واية مخاطر يمكن ان تقع على عاتق المخرجين المسرحيين ، او غيرهم من مخرجي الدراما (42) ، اذا لم يتزودوا حقاً بكل ما يتصل بأدب المسرح ، من تكنيك واسلوب ومذهب؟ … الجواب : بلا شك ستكون كارثة !!
ولكن .. وقبل ان نصل الى نهاية البحث ، لابد ان نشير الى ان معرفة المخرج المسرحي للهدف ، او الفكرة الاساس … الخ ليس كافياً ، في سبيل تقديم عرض مسرحي جيد على خشبة المسرح ، وما لم تسند المرحلتان التاليتان (التغطية والتعبير) للمرحلة الاولى (الاكتشاف) فان خللاً او صدعاً سيحدث في العرض المسرحي ، وفي المقابل مهما تكن عبقرية المخرج المسرحي وتمكنه من المهارة الخارجية (التكنيك) فانه لا يستطيع ان يقدم عرضاً مسرحياً جيداً ، بالمفهوم العلمي ، ما لم يتمكن اولا من مرحلة (الاكتشاف)بشكل دقيق .
الخاتمة
يمكنني بعد الانتهاء من هذا البحث ، ان اؤكد النقاط التالية :
- اولاً : كان الادب ادباً ، فان المسرح ادب وفن ، ومن هنا ، كان لابد لرجل المسرح الاول – المخرج – ان يفهم هذه الحقيقة . وان يسعى الى ترجمة هذا الادب بأمانة على خشبة المسرح .
- ثانياً : اذا كان واجب المخرج ان يقوم بالترجمة الامينة للنص المسرحي ، فلا بد له ان يعرف اولا ، مالذي يجب ان يقوم بترجمته … وتشير الدلائل كلها الى ان اهم شيء يسعى الى ترجمته هو ” هدف ” الكاتب أو فكرته الاساس .. او احساسه العام المتداخل في بنية النص .
- ثالثاً : وعندما يسعى المخرج في سبيله لاكتشاف الهدف ، فينبغي ان يعرف الوسائل او الطرق التي توصله الى ذلك الاكتشاف ، ولقد مررنا بالبحث بشكل مفصل على تلك الطرق … ومنها القراءة الجيدة ، ومعرفة الاثر الكلي للنص ، ودراسة جميع النصوص التابعة للمؤلف .. وحياة المؤلف نفسه .. وفن كتابته .. واسلوبه .. والقيم الدراماتيكية والفكرية والعاطفية والمجردة في النص .. الخ .
- رابعاً : ويجدر بنا نحن العاملين في المسرح كمخرجين محترفين ، والجيل الفني الصاعد من الشباب والطلبة ان نعرف اية صعوبات تكمن وراء عملية الاكتشاف والتي اوقعت اكبر مخرج مسرحي في هذا القرن في مأزق عندما لم يستطيع فهم (فن الكاتب المسرحي) واساء اليه دون ان يقصد .
- خامساً : واخيراً اذا كانت عملية الاكتشاف ، تأخذ كل هذا الجهد والعمل المثابر والبحث والاستقصاء ، كان حرياً ” بالناقد ” ان يتجاوز ثقافته ورصيده الادبي والفني لكي يستطيع ان يؤدي دوره في عملية النقد والتقييم ، واكتشاف الاكتشاف بشكل دقيق وكامل وشامل .
قائمة المصادر
- الكتب
اجري (لاجوس) – فن كتابة المسرحية . ترجمة : دريني خشبة ، القاهرة (مطابع دار الكتاب العربي) ، مكتبة الانجلو مصرية . ( د.ت) .
بسفيلد الابن (روجرم) – فن الكاتب المسرحي . ترجمة وتقديم : دريني خشبة ، القاهرة (دار القومية العربية للطباعة) مكتبة نهضة مصر ، 1964م .
بولسلافسكي (ريتشارد) – فن التمثيل . ترجمة : انور المشري ، القاهرة (دار التأليف) دار النهضة العربية (د.ت) .
جالاوي (ماريان) – دور المخرج في المسرح . ترجمة : لويس بقطر ، القاهرة (الطبعة الثقافية) الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ، 1970م .
ديوكس (اشلي) – الدراما . ترجمة : محمد خيري ، القاهرة (مطبعة مخيمر) عالم الكتب (د.ت) .
الراعي (د. علي) – مسرحيات ومسرحيون . القاهرة (المطبعة الفنية الحديثة) مكتبة الانجلو المصرية ، 1970م .
ستانسلافسكي – فن المخرج . ترجمة : لويس بقطر . القاهرة (دار الكاتب العربي للطباعة والنشر) (كانت مقدمة الطبعة الاولى لدافيد ماجارشاك 1950م ، ومقدمة الطبعة الثانية 1960م ) .
عيد (كمال) – دراسات في الادب والمسرح . القاهرة (المطبعة العربية) الدار المصرية للتأليف والترجمة ، 1966م .
كريج (ادوارد جوردون) – في الفن المسرحي ، ط2 . ترجمة : دريني خشبة ، القاهرة (المطبعة النموذجية) مكتبة الاداب ، سلسلة الالف كتاب 63، 1960م .
مندور (د. محمد) في الادب والنقد ، ط 5 ، القاهرة . (مطبعة نهضة مصر ) ، دار نهضة مصر للطبع والنشر . (التصدير بتاريخ 21/3/1949م) .
نيلمز (هيننج) – الاخراج المسرحي . ترجمة : كامل يوسف ، القاهرة (مكتبة الانجلو المصرية) 1961م .
وليمز (ريموند) – المسرحية من ابسن الى اليوت . ترجمة : د. فايز اسكندر ، القاهرة (مطبعة مصر) المؤسسة المصرية العامة (د.ت) .
- المجلات
الابيض (عبدالعليم) – مشكلة المعنى في المسرح ، مجلة المسرح (القاهرية) .ع9 ، 1964م .
حبه (عبدالله) – نميروفيتش دانتشنكو ، مجلة المسرح (القاهرية) ع43 ، يوليو 1967م .
كول (ثوبي) ستانسلافسكي والمسرح ، عرض فتحي النادي ، مجلة المسرح ، (القاهرية ع23) نوفمبر 1965م .
- روجر . م. بسفيلد (الابن) – فن الكاتب المسرحي ، ترجمة وتقديم : دريني خشبة ، ص 145 .
- لاجوس اجري – فن كتابة المسرحية ، ترجمة : دريني خشبة ص44-45) .
- المصدر السابق ص 45 .
- نفس المكان .
- ينظر الى المصدر السابق ص 46 .
- المصدر السابق ص46 .
- نفس المكان .
- نفس المكان .
- المصدر السابق ص 47.
- نفس المكان .
- كمال عيد – دراسات في الادب والمسرح ص 185.
- نفس المكان .
- المصدر السابق ص 172.
- ستانسلافسكي – فن المسرح ، من مقدمة الطبعة الثانية لدافيد ماجارشاك ص 18 .
- عبدالله حبه – (نميروفيتش دانتشنكو) ، مجلة المسرح (القاهرية) ص 88.
- روجرم .بسفيلد (الابن) – (فن الكاتب المسرحي) ، ص 140 .
- ماريان جالاوي – (دور المخرج في المسرح) . ترجمة : لويس بقطر . ص 25.
- د. علي الراعي – (مسرحيات ومسرحيون) ص 35 .
- روجرم . م. بسفيلد (الابن) – فن الكاتب المسرحي ، ص 164 .
- المصدر السابق .
- المصدر السابق ص 150 – 151 .
- المصدر السابق ص 151 .
- ريتشارد بولسلافسكي – فن التمثيل ، ترجمة : انور المشري ، ص52- 53 .
- ادوارد جوردون كريج – (في الفن المسرحي) . ترجمة : دريني خشبة ، ص 180 .
- د. محمد مندور – في الادب والنقد ، ط5 ، ص 92 .
- اشلي ديوكس – (الدراما) ، ترجمة : محمد خيري ، ص105 .
- المصدر السابق ص 104-105.
- لاجوس اجري – (فن كتابة المسرحية ) ، ص467.
- المصدر السابق ، ص55 .
- المصدر السابق ، ص66.
- اننا نعتقد بأن الفكرة واضحة في المقدمة المنطقية الا ان فعاليتها ترجع الى الصياغة المسرحية .
- المصدر السابق ص 55.
- ماريان جالاوي – دور المخرج في المسرح ، ترجمة : لويس بقطر ، ص 24.
- المصدر السابق ص 25.
- عبدالعليم الابيض – (مشكلة المعنى في المسرح) ، مجلة (المسرح) القاهرية العدد التاسع 1964م ، ص40 .
- ينظر الى محاضرات الاستاذ جو سلوك الاستاذ في معهد كودمان ثيتر – جامعة شيكاغو المطبوعة على الالة الكاتبة لطلبة الاكاديمية – فرع الاخراج والتي قام بترجمتها وتدريسها “بدري حسون فريد” (الباحث) .
- ريموند وليمز – المسرحية من ابسن الى اليوت ، ترجمة : فايز اسكندر . ص60 .
- ينظر هيننج نيهز – الاخراج المسرحي ، ترجمة : امين سلامة ، ص70-71 .
- ثوبي كول – (ستانسلافسكي والمسرح) ، عرض للكاتب من قبل فتحي النادي ، مجلة المسرح (القاهرية) ص88.
- ستانسلافسكي – فن المسرح – من مقدمة الطبعة الثانية لدافيد ماجارشاك ، ص18.
- المصدر السابق . ص18- 19.
- المصدر السابق ص 21 .
- ان البحث والاستقصاء ، لاكتشاف هدف الكاتب ، او فكرته الاساس ، ليس متعلقاً بالمخرج المسرحي فحسب ، بل بجميع المخرجين في مجال الفنون الدرامية (اذاعة ، وتلفزيون ، وسينما …) الباحث .