“تروبيلا” هو عنوان العرض المسرحي الذي اختارته فرقة لايت كوميدي من المحمدية لعملها الجديد لهذا الموسم (2023/2024)، وقد راكمت في فريق إنجازه أسماء متميزة في التشخيص مع الفنانين وسيلة الصابحي و أحمد الشركي والتأليف الموسيقي مع ياسر الترجماني، الإضاءة لعبد الرزاق أيت باها أما الإخراج والسينوغرافيا فهو لأنوار الزهراوي فيما اقتبس العمل المسرحي ومغرب عناصره وعوالمه الدرامية المبدع أمين ناسور.
العرض المسرحي هو نسخة مغربية منقحة ومعاصرة للنص العالمي العبثي “تخريف ثنائي” للكاتب يونسكو، وبعيدا عن الإستحضار الجاف لأطوار النص المسرحي، فقد عاش متفرجو مسرح باحنيني بالرباط ليلة 29-11-2023 أجواء فرجة متكاملة شملت لقاء النص المتقن إعدادا مع رؤية إخراجية وفريق عمل جدي خبر حساسية المسؤولية الملقاة على عاتقه.
إن إختراق واحد من أهم نصوص المسرح العبثي العالمي بأسلوب مغربي متميز، خبره عدد كبير من متتبعي الحركة المسرحية وعشاق الركح، حيث حضور الموسيقى و الآداء الجروتسكي / الماريونيتي وغيره من الأدوات الإخراجية، هو ربح كبير واعتراف لقدرات التجربة المسرحية المغربية المعاصرة على اختراق عوالم نصوص صعبة في سهولتها و سهلة في صعوبتها، ونلاحظ جليا أن العرض المسرحي يقترح مفهوما مغايرا للإنتاج الفني يتمثل فيما أسماه برنار دورت بحالة الوعي الدراماتورجي، حيث أن التصور الإخراجي وأطوار إنتاج العرض المسرحي هو خلاصة تلاقح أفكار وتجارب فريق الهمل كله، والجميل في تجربة “تروبيلا” هي أنها نتاج أسرة فنية حقيقية، طورت أساليبها في عروض سابقة ( لمبروك، نايضة…الخ) .
ماذا يقول النص:
يقول النص بصحيح عنوانه ” تروبيلا” و الكلمة مشتقة من الفرنسية trouble- troublement . وحالة عدم استقرار وزلزلة وخبط عشواء تصيب كل حالة هدوء وسكينة وسلم.
العنوان هو دعوة صريحة للعنف أو الحظ عليه، وفي أتون العرض نجد أننا أمام تقنين للعنف ‘فنيا’، فالفن هو من يحيل حالات الخصام العائلي اليومي وعنفواناته إلى فرجة رائقة. تبتعد عن المألوف عبر توظيفها لأدوات فنية أهمها “التأليف الموسيقي”، ودعونا نقترح في هذا الصدد مفهوم السينوغرافيا الصوتية، فتأثيث المكان المرئي قد يتجاوز حاسة البصر إلى بصيرة المسموع الذي يفسر ويعيد صياغة المرئي، حركة كانت أم ايماءة، ويتحول الممثل بتشخيصه العادي[1] إلى راقص على تقاسيم الصوت الذي يحيي الصورة.
العنوان في فرجة ” تروبيلا” هو طمر للعنف الأصلي فهو حاضر أيضا من خلال الآخر.. الأصوات وطقطات الأحذية و فرقعة المتفجرات، بل إن أحد تلك القنابل المتفجرة تتحول لأكسسوار لعبي بين يدي الشخصيات (هو وهي) يخلق فرجة شد وجذب للتخلص من الخطر، والعبثي في حالة المتفجر (القنبلة) هو حوار”هي” عندما يتخلصان من الأولى و تلقى عليهما قنبلة ثانية ” تفو قنبولة ، غادي نتفرقعو ثاني”. إنها عبثية من عبثيات كثيرة تجمع بين سجع الملفوظ وغرابة التشبيه وسوداوية الموقف.
الفن هو بالضرورة أداة تفقدك توازنك ولو للحظات حتى تخلق في أحاسيسك شيئا من الكمال، ومسرحية “تروبيلا” هو عمل فني يخلخل دواخل المتفرج انطلاقا من ما يبدو عاديا ويوميا. يخلق المتعة والفرجة والجمال من عبثية الموت والتقتيل الذي نعيشه يوميا من خلال أحداث الكوارث الطبيعية أو الأحداث السياسية والحروب التي لا تنتهي.
ماذا تقول السينوغرافيا ؟
تخبرنا سينوغرافيا عرض”تروبيلا” عن فضاء سينغرافي واحد تخلقه لعبة الضوء والإضاءة و تتحكم في خلق فضاءات لعب داخله. من خلال حزام ضوئي يأطر أرض الخشبة يكمل سيره لينتصب عموديا في عمق الخشبة حيث يرسم شكلا غرائيبا يتبين أنه نافذتين كبيرتين بمساحة جدار و في التقاءهما يتشكل باب غريب تتميز حوافه العلوية بشكلين مسننين يعبران عن حالة التكامل الممكن و الشحناء القائمة والتي تعم المكان. الإطاران / النافذتان عليهما ستارة من ثوب شفاف له خصوصية رائعة في التفاعل مع الإضاءة خاصة مع الإضاءة باللون الأزرق الذي استخدم كثيرا، ونشير إلى حضور قوي لشعرية الضوء حيث أن الضوء حاضر في كل أجواء العرض من خلال الحزام الضوئي الذي يتفاعل بألوان أحمر أزرق ..إلخ، ثم الستار الذي يعكس لون الطقس الضوئي و الشكلان المسننان يحيلان مع مجموع عناصر التصميم السينغرافي إلى القول بخلق جو مكهرب و مشحون لا ينتظر إلى الممثل ليعبر عنه بأدواته وتشخيصه.
تستخدم المسرحية كرسيين بلون أبيض واحد لكل شخصية، و استعملا غالبا في وسط الخشبة و كانا فضاءين لعبيين منفصلين لفترة معتبرة في بداية العرض ليستخدما كأكسسوار متحرك عدة مرات.
تستخدم السينغرافيا شماعة وهو فضاء استخدمه “هو ” كثيرا فيما هنا مرآة أو بالأحرى إطار أبيض كان فضاءا لشخصية ” هي” نكتشف في مرحلة متقدمة من العرض أن هاتان القطعتان معلقتان في الفضاء، فلغة المكان تمتنع عن وجود ما يُثَبت أي معالم، فتيمة الفوضى حاضرة بقوة في تفاصيل العرض ولاشيء يقبل الثبات : الحلزون (غلالة)/ السلحفاة ، فتح النافذة/ اغلاق النافذة ، الخبز/ الفول ، …الخ ، كلها تيمات و مواضيع أثثت للعرض المسرحي من خلال الحبكة والملفوظات الحوارية .
“تروبيلا” هو عرض فرجوي بامتياز يحمل في طياته وتفاصيله فلسفة العبث وعمق الطروحات الإنسانية بروح الدعابة و الملهاة السوداوية وهو عرض ، بل يحتاج ليعرض مرات كثيرة حتى يشفي غليل الجمهور المتعطش لهذا النوع من الفرجة الذكية .
الاحالــة:
[1] التشخيص العادي في حالة هذا العرض هو تشخيص مؤسلب يتجه نحو آدائية الماريونيت وهو اختيار جمالي ارتضته الرؤية الإخراجية