تعد المهرجانات أحدى الوسائل المهمة لمدّ جسور التعارف والتعاون وهي أيضا طريقة للترويج والتعريف بالطاقات الابداعية التي تعمل على الظاهرة المسرحية بكل تجلياتها، وفي المهرجانات ومن خلال فعالياتها يتم تبادل الافكار وتقديم المقترحات وعقد الاتفاقات لاعمال وتعاون مشترك بين كتاب ومخرجين وعاملين، لذا أصبحت المهرجانات قادرة على خلق علاقات فنية وفكرية ينهض بها أشخاص أو مجموعات أو فرق وليس بالضرورة أن تنهض بها وزارات ولكن في الاغلب تعمل تلك الوزارات أو الهيئات على تعضيد تلك المبادرات التي تدعو الى إقامة ملتقيات أو مهرجانات ويزداد الاهتمام والدعم حين تنجح تلك المهرجانات في استقطاب أسماء وشخصيات لامعة وفرقا متطورة في مجال الاختصاص والعمل، ومهرجان الدن المسرحي والذي يقام كل سنتين في مدينة مسقط في سلطنة عمان واحدا من تلك المهرجانات التي استطاعت فرقة مسرحية صغيرة تأسست في العام 1994 أن تنهض به وتسعى الى تكريسه من خلال حماسة شباب وحبهم لآبو الفنون المسرح وإيمانهم أنه ضرورة إجتماعية لابد وأن يزهر ويزدهر في بلدهم، وزاد حلمهم وتطور طموحهم بعد نجاح دورتهم الاولى فكان أن أصبح مبتغاهم، كيف تكون مسقط مدينة تضم العالم اليها من خلال المسرح، تميز مهرجان الدن في دورته الرابعة والتي أنطلقت بتأريخ 23 \10 \ 2023 حتى تأريخ 31 \ 10 \ 2023 بعد أن ألغي حفل الافتتاح احتراما لآحداث مدينة غزة وما تتعرض له من عدوان إبادة وتدمير ، تميز هذا المهرجان بثلاث محاور وهي محور مسرح الطفل ومحور مسرح الشارع ومحور مسرح الكبار، ولكل محور من هذه المحاور الخاصة بالمسرح لجنة تحكيمية تتابع وتقيم العروض المشاركة في المهرجان. عدا أن مسرح الكبار هو الوحيد بعروضه الذي حظى بإقامة ندوات نقدية بعد كل عرض وبشكل مباشر وكان الجمهور حاضرا ومتواصلا بشكل مثير للاعجاب طيلة أيام المهرجان.
لذا تنوعت العروض المشاركة في المهرجان وكانت الوفود الحاضرة تنتقل من مكان الى آخر للمشاهدة والمتابعة، حضرت دول عربية وأجنبية وشاركت في تقديم فعالياتها الفنية، فكانت هناك عروضا عمانية وسورية وأردنية وعراقية ومصرية وكويتية الى جانب عروض من إسبانيا وأزبكستان وأيران والذي لفت الانظار أن أغلب العروض في مسرح الكبار كانت شبابية من مصر ومن الكويت ومن عمان ومن سوريا وإسبانيا، وكانت العروض في بعضها تقدم الكوركرافي وبعضها تقدم الكلاسيكي وبعضها الآخر تشتغل على الحداثوية. لذا كان هناك ثمة فرق واضح بين عروض إحترافية وبين عروض تقترب من العروض والتدريبات المدرسية! تزامن مع إقامة المهرجان وفعالياته إقامة ورش مسرحية في التمثيل والصوت والالقاء والتوظيف الجسدي في الحركة على المسرح، إنتهى المهرجان وسط تنظيم جميل ومتابعة أعلامية جيدة ومثابرة.
ولكن كانت محنة المهرجان تتجلى في لجان التحكيم التي جاءت نتائجها مثيرة للتساؤل والتعجب ولاسيما في مسرح الطفل ومسرح الكبار ولعل السبب الرئيسي الذي كان وراء إخفاق هاتين اللجنتين تتحملها اللجنة المنظمة للمهرجان. اذ لم تضع توصيفا لمهرجانها ولم يكن هناك اتفاق على آلية اشتغال ومعايير تعتمدها حين تقييم العروض وتوزيع الجوائز. اذ كيف يتم تقييم عرض مسرحي للاطفال يقوم على رقص وغناء الراب والهب هوب طيلة فترة العرض دون أن يحمل العرض رسالة تربويىة أو جمالية وكأنه عرض لمسرح الطفل يضع الربح والخسارة قبل أن يضع قيم المسرح ورسالته في التوعية والمتعة ثم يتوّج بأفضل عرض! ويتم تجاهل عروض مسرحية تفاعل معها الاطفال وأحبوها وكان الاشتغال فيها على مستوى عال من الاتقان والجمال فكريا وفنيا ! ولم تكن التوصيات التي رفعتها اللجنة التحكيمية لمسرح الطفل بذات أهمية بحيث تضع خارطة طريق لآختيار العروض بشكل سليم وناجح للمهرجانات القادمة بل كانت مجرد إنشاء غاب عنه التشخيص السليم وطغت عليه العجالة.
أما اللجنة التحكيمية لمسرح الكبار فقد كانت هي الاخرى في بعد كامل عن الرؤية الحقيقية لطبيعة العروض المشاركة، إذ غاب عنها أن تضع هي الاخرى آلية اشتغال وطريقة تحكيم تعتمد الاسس والمعايير الحقيقية للتحكيم مع الفرز الدقيق بين الاحترافي المتمكن من أدواته وبين المبتدئ والهاوي في المسرح. وقد اعتمدت المناصفة في الدور الرجالي الرئيسي وأغفلته في الدور النسائي الرئيسي ! وغاب عنها أن العرض الذي يأخذ جائزة أفضل عرض مسرحي متكامل لا تتجزأ جوائزه لأفراد، وبدلا من أن تقدم توصياتها بناءا على ما لاحظته ولمسته طيلة أيام المهرجان ومن خلال متابعتها لعروضه المسرحية الموجهة للكبار، أكتفت بالشكر والتبريك والتهنئة بنجاح المهرجان وكأنها لم تلحظ شيئا أو لم يلفت نظرها شيء ونسيت أن تنّوه أنها رفعت عرضا أحترافيا كبيرا من عروض المهرجان الموجهة للكبار من المسابقة الرسمية دون حتى أن تعلم أصحاب العرض بذلك وتضع المبررات. مما أثار الكثير من الاسئلة والاستغراب !
ولعل اللجنة التحكيمية الوحيدة التي تميزت بالرصانة والدقة والتوصيف السليم ونجحت في تقييماتها وإعلان بيانها وتوصياتها هي اللجنة التحكيمية الخاصة بمسرح الشارع والتي كانت متكونة من أسماء ذات اختصاصات متنوعة ومهمة وتعمل بآلية اشتغال علمية ملموسة، والتوصيات التي نؤكد على أهميتها هي أحدى الوسائل التي تتيح لفريق ادارة المهرجان أن يتلافى الاخطاء والسلبيات التي أعاقت وخلخلت الميزان النقدي والتحكيمي كي يتم تجنبها في المهرجانات القادمة.
لذا يعد اختيار لجان التحكيم من أولى المهام التي تنهض بها اللجنة التحضيرية لآي مهرجان يسعى للنجاح والاستمرار بتطور وتفوق وأن تختارها بعيدا عن الاخوانية والمجاملة وبطولات الفيس بوك، ويبقى مهرجان الدن واحدا من المهرجانات العربية التي تسعى للثبات والرسوخ على خارطة الثقافة والفنون المسرحية في الوطن العربي ساعية الى احتضان العالم ولعل أجمل مافي هذا المهرجان هو الطيبة والدفء الذي يميز هذه المدينة وأهلها ….
** د عواطف نعيم / كاتبة ومخرجة مسرحية