” حضارات
ما إِن لامستْ اقدامُ الممثلين المثقّفين العارية خشبةَ المسرح حتى أمطرت الإضاءة نوراً يحضنه الإحساس كردّة فعل لشفافية الابداع النادر.
فجأة، امتدّ الشعاع الى الخارج فهدأت عاصفة نعال المارّة في الشوارع وتجمّدت محرّكات الآليّات في صقيع عتمة روح المدينة، استراحت الطرقات من صراخ الشحّاذين المشرّدين بين أشجارٍ نخرت الطيور جذوعها بحثاً عن طعام تبني منه مخفراً تختبئ فيه من ضجيج مسارح تحتضر كواليسها وينازع جمهورها فوق المقاعد.
جمهورٌ كل فردٍ منه يشبه إنسان الكهف مدموغ الجبين بآيات من الضجر الثقافي المسطّح، جسده مطليّ بالجهل الفنيّ الغارق في طوفان السرقة الأدبية والتزوير الأكاديمي.
صدى صمت الإبداع الأصيل يرفرف بين سينوغرافيا مسرحيّتنا من وبر الغزال المشدودة أوتاراً ناعمة تتشكّل في جمالٍ هندسيّ نابع من الهدف الأعلى للرؤية الاخراجية، ترقص عليها أجساد الممثّلين بليونة، تغزل بين الأفعال والأحداث وأهداف الشخصيات فتكشف الصراع الباطنيّ الى العلن لتنحت خريطة النص الأدبي في مشاهد فنيّة تتكامل جماليّاتها عبر تحقيق الأهداف الإبداعيّة انطلاقاً من فكرة الكاتب وتطويرها الى موضوع يستوطن فكر المشاهد حيث تبدأ عملية التحليل والنقاش الذهني فيما بين القاعة والخشبة، وذلك بتصاعد دراميّ ترسمه فلسفة الميزنسين النابعة من تفاصيل الايديولوجيا الفنية للكاتب والمخرج.
في تلك اللحظة، يبدأ الممثّل في اكتشاف ذاته ويسارع في تطهير نفسه من الشوائب والحالات الكاذبة والمصطنعة ويناضل لترسيخ اسس شخصيته الفنية انطلاقاً من حياة الدور وسفرها بين معابر ودروب كل مكوّنات فضاء العرض المسرحي.
يعمل المخرج وحيداً ولسنوات في اعداد النص واكتشاف رؤيته الاخراجية بعدما يكون قد شرّح كل المفاتيح واحاط بجوانب كل أدبيات الكاتب حتى يصبح منبره الفكريّ واضحاً ومتيناً في بناء كل شخصيّات العرض وما يدور حولها.
هذا الاعداد الجديّ السابق للتمارين يحتّم نجاح المسرحيّة ويقدّم لكلّ الفنّانين الفرصة التفكيرية لتنمية الخيال والتخيّل في تدعيم جماليّات العرض البحثية ونشر الاستفزاز الايجابي بين الممثل وذاته وبين الممثلين مجتمعين وبين الخشبة والجمهور.
وانطلاقاً من هذا التحدّي في التنافس الشريف في معرفة اسرار الخلق تتكوّن المعرفة والوعي والجمال فتكون الحضارة هدفاً دائماً لمجتمع لا تهزّه ثقافات وتقاليد فنيّة مريضة ترعرعت على الفساد الثقافي المجبول بالعهر والاستغلال والتشاطر والتكاذب والانتهازية في الفن وفي امتهان سياسة العلاقات العامّة في السلطة وخارجها المبنيّة على المصالح المتبادلة في محاولة ذبح الفنانين الجادّين والملتزمين بأوجاع الناس الحقيقية وبأدبٍ كلاسيكي عمره مئات وآلاف السنين ولم يزل حتى الآن قاعدة صخرية للأدب المعاصر حيث أنه دليل الدرب لديمومة الجامعات والمعاهد الفنية العريقة التي تنشد دائما بناء مختبرات التطوّر والاكتشافات المسرحية سنة بعد سنة.
لا يزال جمهورنا الحضاري ثابتاً في مقاعده وفي حالة تركيز مذهلة، منحوتةً تفكّر في اقصى حالات الاحساس، بصر كلّ فرد منه يتسابق في ملاحقة مشهديّة ترتسم كحلمٍ واقعي. يعلو التصفيق سرّاً في انضباط داخليّ ينتظر لحظة الانفجار المدوّي بين اصابع وباطن الأيادي المقدّسة لأولئك المشاهدين قبل أن يعودوا ويخشعوا في حالة استنفار دائم ويتنفسّوا لا اراديّاً العشقَ والحبَّ لآلهة الخشبة الذين يجسّدون لهم افكارَهم في طقوس المسرح الأكاديميّ المعبّر بصدق عن معاناتهم ووجعهم نتيجة حياة ثقافية مفقودة، لأن عطشهم ارقى وانبل من نظام الطاعون الفنيّ الذي يحكم بعض وسائل التواصل الاجتماعي والشاشات والمسارح والجامعات والمعاهد وغيرها.
هذا العرض المقنع وتلك التحفة الفنية اربكا البلد والمنطقة وانظمتها المهترئة منذ نشأة الروّاد المسرحيّين الزائفين وتلاميذتهم الضالين والمتسكّعين على ارصفة وقصور ثقافة المال المبتذل.
تلك الأنظمة التي تضع نصب اعينها هدفَ تسطيح الفكر الانسانيّ وتخدير كل مبدع يحاول الانتفاض على واقع ذليل ليس له علاقة بأرسطو و”فن الشعر” ولا بمن تربّى على يديه ولا على ايادي امثاله من الفلاسفة والمفكرين.
لا بديل عن حبر المطابع الذي يخطّ جواهر الفلسفة الانسانية
لا بديل عن المراجع التي اسست لحياتنا الثقافية الرائدة والتي نتنفّس اليوم من حضارتها
لا بديل عن دعم الفنّان المبدع للتغيير نحو السعادة الحقيقية
لا بديل عن خشبة المسرح التي تعزف ايقاعات المجد الانسانيّ
اوقفوا تهريب مشاريعكم المبتذلة والوهميّة بين كواليس خشبات المسارح العربية والعالمية، لان اطفالنا وطلابنا سوف يضربونها يوماً بنار التقدّم، فتغرق برمادها في قاع البحر.
سوف يمسحهم الزمن كما فعل بأمثالهم السابقين، لأن التاريخ لا يصطفي الا من يأتي بجديد.
المسرح ليس نزهة ولا رحلة استجمام، المسرح انسان يفكر، يبحث، يبدع، يقترح، يحاور، يعزف حقيقة ألم الحياة بلغة اسمى وأروع من الحياة التي نعيشها وبفكر طليعيّ.
المسرح لعبة لكل اختصاصات الارض والكون نلعبها لنرتقي بها الى كواكب مجهولة، نحاول اكتشافها لنبذز فيها اختراعات بذرة الفن الصادق، فتنبت حضارات لوطن مثاليّ ولمدينة فاضلة ننمو فيها ونتعلّم من متناقضات شعبها واشجارها وحيواناتها وطبيعتها كيف نعيش بحب وسلام حتى تبقى خشبة المسرح معهداً للإنسانيّة”.