( فما معنى أن تكون احتفاليا؟ وماذا تعني الاحتفالية؟
هل الاحتفالية مجرد شكل مسرحي؟ هل هي تقليعة أو موضة مسرحية؟
هل هي تقنيات وآليات فنية مغايرة، أم هي رؤية وتصور يستشرف أفقا منفتحا على الفكر والجمال والإبداع؟
ما هي الأسس الجمالية والمنطلقات الفكرية للاحتفالية؟
ما هي حدود الاستمرارية والقطيعة في الفكر والتمسرح الاحتفالي ؟
ما هي حدود الإتباع ومظاهر الإبداع في الاحتفالية؟
أين يكمن التجدد في جوهر الممارسة الفكرية والدرامية الاحتفالية؟ )
د. محمد محبوب ( الهوية الاحتفالية: من الإتباع إلى الإبداع ـ الاحتفالية المتجددة ـ مجلة الفنون المسرحية ـ نحو مسرج جديد ومتجدد ـ 18أغسطس 2021
البيان الأول:
بيان العيد والتعييد
الاستمرار مع التجديد
أسئلة ما بعد زمن الجائحة
يقول الاحتفالي مخاطبا ضيوفه وأحبابه الاحتفاليين، وذلك في مدخل رحلته الافتراضية، والتي أعطت نفسها اسم ( الرحلة البرشيدية) يقول:
“نحن العيد يا أصحابي، ونحن أهله وصحبه، وما هذه اللحظات المتطايرة، فينا ومن حولنا، إلا لحظات للتعييد.. انظروا .. أو تخيلوا .. لقد أوقدت الشموع والقناديل حتى تروني، ومعي كل ظلالي الملونة، وحتى أراكم أحسن..إنني أدعوكم إلى مائدتي، وهذا العشاء هو العشاء الأول، وأعدكم بأنه لن يكون الأخير، وكلمة الأخير لا وجود لها في مملكة هذه الساعة التي لا تشبهها أية ساعة، أنتم أصحابي.. كلكم أصحابي، وليس بينكم أي يهوذا، أليس كذلك؟ ومن كان منكم خائنا، أو كان في نفسه شيء من الغدر، فإنه لا يمكن أن يكون منا، أو أن يشاركنا الخبز والملح والماء وهذا الهواء..
إن مائدتي هي مائدة الفرح، ولقد أخبروني، بأن الاشتراك في كل شيء ينقصه، إلا في السرور، فهو يزيده، تعالوا إلي إذن، اقتربوا أكثر، فشجرة الفرح ليست محرمة، وليست ممنوعة إلا على الظالمين والمجرمين وعلى المزيفين والمحتالين، وعلى الجلادين” (1)
وهكذا هي اللحظة الاحتفالية دائما، لا يمكن أن تكون إلا جديدة ومتجددة ومقتسمة مع الآخرين، والذين يشبهوننا ونشبههم، وبغير فعل الحضور في الموعد، ليس قبله ولا بعده، فإنه لا يمكن أن يكون للاحتفال والتعييد أي معنى، وهذا اليوم الجديد، هو بالتأكيد هو يوم العيد، أي عيد الإنسان والإنسانية، وعيد الحياة والحيوية، وعيد المدينة والمدنية، وعيد الجمال والكمال، وعيد الحق والحقيقية، وعيد الصحة والعافية، وطلك في معناهما المادي والرمزي معا، وهي عيد الحرية والتحرر أيضا، وعيد العقل والتعقل، وعيد الخيال والتخيل
وفي مدخل هذه البيانات الجديدة، أقول ما يلي: هذه بداية أخرى، في مسار هذه الاحتفالية المتجددة، والتي هي فينق بأرواح متعددة، وبأحلام متجددة، ولعل أخطر ما في هذه الاحتفالية، الحالمة والعالمة والفاهمة والمتفهمة، هو أنها لا تبتعد إلا لتقترب، وأنها لا تذهب إلا لتعود، وأنها لا تغيب إلا لتحضر، وأنه ليس في مسارها الوجودي إلا البدايات الشعرية الجديدة والمتجددة، وبغير هذا ما كان ممكنا أن تشبه نفسها، وأن تكون وفية لروح فلسفتها، ومن حقنا أن نؤمن اليوم، تماما كما آمنت بالأمس، بأن أجمل كل الأحوال في أعمار هذه الاحتفالية المفتوحة هو حال البدايات المؤسسة للحياة، وذلك في درجاتها الأكثر جمالا وبهاء والأكثر صدقا وحقيقة، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي (ومع الأيام اقتنعت بان أجمل ما في الأشياء ـ كلها ـ بداياتها الأولى، فاليوم هو فجره، وكل ما عداه حشو، والأغنية مطلعها، وكل شيء غيرها مجرد ترديدات وتنويعات ومجرد تكرار، وأجمل ما في الأعمار لحظة الولادة، وكل شيء خارج هذه اللحظة ما هو إلا تمطيط فقط، تمطيط قد يكون له معنى وقد لا يكوم (2)
في ذلك اليوم الربيعي من سنة 1976 كان البيان التأسيسي للمسرح الاحتفالي، وكان ذلك الفعل بسيطا ومحتشما وخائفا، ولكنه كان صادقا بكل تأكيد، وقد كان في معناه الحقيقي مبادرة شجاعة، وكان مخاطرة وجودية، وكان نقدا ونقضا، وكان إبحارا ضد التيار، وكان صرخة في وجه العالم، وكان دعوة للتلاقي، وكان بحثا عن مسرح أخر مختلف ومخالف؛ مسرح روحه الاحتفال، وجوهره العيد والتعييد، وهدفه إنسانية الإنسان وحيوية الحياة ومدنية المدينة، مسرح قريب منا نحن، في أي أرض كنا، وفي أي زمن كنا، وفي أي مناخ ثقافي كنا، وفي أي سياق تاريخي كنا
واليوم، وفي خضم هذا المنعطف التاريخي الصعب، يكون من واجب الاحتفالية أن تقول كلمتها الجديدة في هذا الزمن الجديد، ولهذا فإننا نتقدم للحقيقة والتاريخ بهذه البيانات الاحتفالية الجديدة، والتي هي بيانات في عمرها الجديد، والذي هو عمر ما بعد الجائحة، والأساس في هذه الاحتفالية هو أنها رؤية للوجود، هكذا يقول الاحتفالي دائما، وهي بهذا مسار ومسيرة وهي أعمار وأفكار تسير، وهي رؤية عيدية صادقة، وذلك لعالم يبحث عن اليوم الثامن في الأسبوع، والذي هو يوم العيد، ويبحث عن الشهر الثالث عشر في السنة، والذي هو شهر العيد، وأصدق ما يميز هذه الرؤية الصادقة هو ( أنها نظامها الداخلي بكل تأكيد، ولها فلسفتها، ولها بلاغتها، ولها شعريّتها، ولها مناخها وطقسها، ولها أأسباب نزولها إلى الواقع التاريخي الحديث والمعاصر، ولعل أهم ما يميزها اليوم، وبشكل خاص، هو أنها رؤية واقعية حالمة، وأنها رؤية سعيدة وعالمة وجميلة ومنظمة ومرتبة وشفافة ومتفائلة ومتسلطنة، وذلك في مقابل الرؤية الأخرى، والتي قد تكون رؤية مأتمية أو رؤية جنائزية، وتكون ساكنة ومحدودة ومغلقة، ونقول الرؤية الاحتفالية أيضا، وذلك في مقابل الرؤية الأخرى العبثية والعدمية، وفي مقابل الرؤية الظلامية والفوضوية كذلك، وفي مقابل الرؤية المتشائمة والقيامية والتي لا توحي بشيء، ولا تعد بشيء) (3)
وهذه البيانات الجديدة، بكل حالاتها وظلالها، هي بالتأكيد بيانات الرؤية الاحتفالية الأم، والتي هي رؤيتنا نحن ـ الآن ـ هنا، وفي هذه النحن الصغيرة يختبئ كل الإنسان، ويختبئ كل التاريخ، ونختبئ كل الجغرافيا، وبهذا فقد كان الأصل في الرؤية الاحتفالية أنها رؤية إنسانية حية، وذلك في مقابل الرؤية الوحشية والرؤية الآلية والميكانيكية، وهي رؤية كونية في مقابل الرؤية العشائرية والحزبية والشعوبية والفئوية الضيقة والمحدودة، وهي بهذا لا تسعى من أجل أن يكون لها موقع محدد ومحدود في الوجود، ويكفيها أن يكون لها موقف مبدئي ثابت ن الوجد والموجودات) (4)
وفي هذه البيانات الاحتفالية (الجديدة) سنستعيد شيئا من روح تلك الأسئلة ( القديمة) وبها وفيها ومن خلاله،ا سنؤكد على أن الرهان التالي، وهو أن الحقائق الصادقة والصاعقة تظل جديدة ومتجددة دائما وأبدا، وقد تشيخ الأجساد، مع توالي الأيام والأعوام، ولكن الأرواح لا تشيخ، وهذا ما يفسر أن تظل الأسئلة الاحتفالية مثيرة ومدهشة ومستفزة وحية ومعاصرة لكل عصر، وأن يغيب التكرار والاجترار فيها، شكلا ومضمونا، وأن يحضر العقل المفكر والمدبر، ولهذا يكون من حقنا اليوم ـ أو من واجبنا ـ أن نقول ما يلي:
هي أسئلة كثيرة طرحتها الاحتفالية على نفسها زمن الجائحة، ومنها الأسئلة الأساسية والحيوية والجوهرية التالية:
ــ كيف أمكن أن نؤسس الحدث الجديد والمجدد والمتجدد في واقع اللاحدث؟
ــ وكيف أمكن أن نستحضر فعل الحضور، بكل ظلاله وأضوائه وأصواته وأصدائه، في زمن الغياب والتغييب وفي زمن المنع والقمع؟
ــ وكيف أمكن أن نظل احتفاليين، وأن نكون مع الآخرين، وأن يكون الآخرون معنا في زمن العزلة والانعزال وفي زمن الغربة والاغتراب وفي زمن النفي والمنفى؟
ــ وكيف كان يمكن أن نحول ذلك الفراغ المادي القاتل إلى امتلاء وجداني وفكري وروحي، وأن نفكر ونبدع، رغم غياب كل شروط الإبداع؟
ــ وكيف أمكن للاحتفاليين، في زمن الجفاف الوجداني والفكري، أن يزرعوا في تربة ذلك الجمود شيئا من الفعل ومن الفاعلية ومن الحياة ومن الحيوية ومن الأمل؟
ــ وكيف أمكن أن نظل ـ نحن الاحتفاليين ـ مؤمنين بالاحتفال وبالعيد، وذلك في زمن الخوف وزمن الرعب وزمن الموت العبثي؟
ــ وكيف أمكن أن يتحدى الكائن الإنساني والمدني فينا، ذلك الواقع الاستثنائي الشاذ، وذلك بكل وزنه و ثقله، وبكل غموضه والتباسه، بحثا عن ذلك الممكن الأصيل والجميل والنبيل؟
ــ وكيف أمكن أن نقرأ ذلك الواقع العبثي والمأتمي والفوضوي والقيامي والعدمي قراءة حية، وأن تتم هذه القراءة في ضوء الفلسفة الاحتفالية، والني هي فلسفة للفرح الممكن؟
ــ وكيف أمكن للاحتفالي الذي يسكننا، والذي هو بالأساس كائن اجتماعي وتاريخي مشاء، أن ينعزل في بيته، وأن يهجر الدرب والساحات والأسواق والمنتديات والمسارح وأن لا يمشي؟
وتبقى الأسئلة الأخرى، في علم وفكر وفقه هذه الاحتفالية، والتي قد تأتي غدا أو لا تأتي، هي الأكبر والأخطر بكل تأكيد، وتبقى مسائلها الأصعب هي التي يمكن أن تأتي يها الأزمنة الصعبة دائما
الزمن يمشي والاحتفالي والاحتفالية كذلك:
وتؤكد الاحتفالية على الفعل والتفاعل، وعلى الانفعال والفاعلية، وعلى الحركة والتحرك، وعلى الأجساد المادية والرمزية الحية المتحركة فيها وخارجها، تماما كما أنها تؤكد على تلك الطاقة المحركة في فكرها وفي علمها وفي فنها، وقبل ذلك، في رؤيتها العيدية المجددة والمتجددة في هذا العالم الذي يمشي باتجاه الممكن، وباتجاه الغائب، وباتجاه الأعلى والأسمى
وبخصوص علاقة الاحتفالية، بفعل هذا المشي، والذي هو مشي الأجساد الحية أيضا، في هذه الأكوان والعوالم الحية، نجد ذلك الاحتفالي فيها يقول:
(إنني أنا الكاتب الاحتفالي المشاء، في هذا الكون العيدي الذي يمشي، وفي هذا الزمن الذي يمشي، باتجاه الأجمل والأكمل والأنبل بالضرورة، وإن كانت العين المجردة لا ترى هذه الحركة الصامتة والحية، وإنني أردد دائما نفس اللازمة، مرة بلساني، ومرة أخرى بلسان أقلامي الكاتبة، وفي أغلب الحالات بلسان مخلوقاتي المسرحية العجيبة والغريبة، وإنني أجد نفسي أقول بكل اللغات الكائنة والممكنة ما يلي:
( إنني أكتب وأمشي، :وأقول كلماتي وأمشي، وأسجل شهادتي وأمشي) (5)
وهل فعلا، توقف العالم عن الحركة والمشي، في زمن تلك الجائحة، أم فقط، خيّل إلينا ذلك؟
بالتأكيد لا، وفي عين الاحتفالي دائما، وف وجدانه وعقله وروحه أيضا، فإن ( هذا الوجود، بكل من فيه وما فيه من تعدد وتجدد وتنوع ومن امتلاء ومن غنى، وبكل ما فيه من مسافات وامتدادات، وبكل ما فيه من ألوان وظلال ومن أضواء وأصوات، ومن أنغام وإيقاعات، ومن حالات ومقامات، ومن مستويات ودرجات، هذا الوجود الساحر والمبهر، والمتعدد والمتفرد والمتجدد والمتمدد بشكل دائم، هذا الوجود الاحتفالي ألا يستحق الاحتفاء به وفيه؟ وأن يشمل هذا الاحتفاء عبقريته وعظمته وكل جوانبه الظاهرة والخفية والكائنة والممكنة والحاضرة والغائبة والقريبة والبعيدة) (6)
وفي ذلك الزمن الكابوسي المرعب، والذي هو بالتأكيد زمن غير احتفالي وغير عيدي وغير ودي، ظهر من جديد، نفس ذلك السؤال القديم الجديد، والذي هو كيف يرى الاحتفاليون (هذا الوجود الساحر والمبهر؟) ويأتينا الجواب التالي ( يراه الاحتفاليون عرسا وجوديا بسعة الأيام والأعوام وبعمق التاريخ والجغرافيا، وهو عندهم عرس الطبيعة أولا، تماما كما هو عرس الإنسان الحي في المجتمعات الحية، وإن من واجب هذا الاحتفالي العاشق والمبصر والمدرك لجمال هذا العرس الوجودي، أن يراه وأن يدركه بكل الحواس، وأن يقبض على لحظاته وساعاته العابرة والطائرة في الفراغ، وأن يتجدد دائما، فكرا وروحا ووجدانا، بفعل جديد هذا الاحتفال، وأن يكون من واجبه أن يجعل فعل الفرح يتجدد به وفيه ومن خلاله أيضا، وأن يكون هذا الاحتفال مناسبة يومية وأسبوعية وسنوية يتجدد فيها فعل التلاقي بين الأجساد والنفوس والأرواح الحية، وأن يتم فيه اقتسام كل شيء؛ موضوع الاحتفال ولحظته ومناخه وفرحه) (7)
لقد ظل هذا لاحتفالي وفيا لاحتفاليته، وظل مؤمنا بالحضور وبالتلاقي وبالحق في التعييد وفي اقتسام الفرح، وبحسب هذا الاحتفالي دائما، فإن ( هذا الوجود الاحتفالي، في صورته الصادقة والناطقة، قد يراه الآخرون مأتما للتباكي، وذلك حقهم، تماما كما أن من حق الاحتفاليين أن يعيدوا فيه، وأن يحتفلوا في مناسباته، وأن يفرحوا بالقدر الذي يستطيعون، وأن يقولوا بأن الأصل في الوجود هو الفرح، وأن أهم وأخطر كل حقوق الإنسان هو الحق في الفرح، وبأنه ما وجد الإنسان في هذا الوجود ليشقى، ولكن ليسعد بما أعطته أمه الطبيعة من خيرات، وبما أعطته أخته الحياة من جماليات حسية ومعنوية)
ويبقى أن نتساءل: بخصوص هذه البيانات الجديدة، ما الذي يمكن أن تبينه؟ وهل هناك ما يستوجب فعل التبيين، في هذا العالم الغامض والملتبس؟
لقد تجدد هذا العالم بكل تأكيد، والاحتفالية أيضا تجددت، ودائما داخل نظامها ومنظومتها الفكرية، وداخل مناخها الوجداني والروحي العام، ومن واجبنا أن نبين كل هذا في بيانات، وأن نقول كلمتنا الجديدة لهذا العالم الجديد
نحن اليوم أمام احتفالية أخرى، احتفالية تولد الآن هنا، بنا وفينا ومعنا ولادة أخرى، وهي احتفالية لحظتها التاريخية بكل تأكيد، ولعل هذا هو ما يجعلنا نقول عنها إنها احتفالية ما بعد الجائحة، والصواب أن تقول احتفاليات ما بعد الجائحة، والتي لا نعرف عددها، وأننا فقط لا نعرف إلا شيئين مؤكدين عنها وهما :رؤيتها العيدية وفلسفتها الاحتفالية
والأصل في هذه الاحتفالية، بكل أعمارها وحالاتها ومقاماتها وتحولاتها، هو أنها ( ليست جسدا في الجغرافيا، ولكنها حركية رمزية في الزمن التاريخي، وخلف هذه الحركية تختبئ طاقة حيوية جديدة ومجددة ومتجددة بشكل دائم ومستمر ومتواصل، ولقد تنبأ بعض فقهاء المسرح، بأن الاحتفالية ستقتلها الجائحة، وبعكس كل التوقعات والتنبؤات والقراءات، فقد ماتت الجائحة، وبقيت الاحتفالية، وخرجت من دائرة الأيام ولليالي المأتمية المغلقة أكثر حياة وأكثر حيوية وأكثر إصرارا على الوجود وعلى الحضور وعلى الحياة وعلى الحيوية وعلى الفرح وعلى الاحتفال وعلى التعييد وعلى التلاقي وعلى الحوار وعلى التحدي وعلى الجدل وعلى التفكير بصوت مرتفع) (8)
وبعد كل انعطافة في التاريخ الحديث، وبعد كل هزة قوية وعنيفة فيه، سيجد هذه الاحتفالي نفسه مضطرا من أجل أن نقول نفس ما قاله عن الاحتفالية، في بدايتها التأسيسية الأولى، والذي هو (أظن أنه قد جاء الوقت لنخرج جميعا من دائرة الجمود على الموجود ـ على حد تعبير الشيخ محمد عبده ـ وأن ندخل الزمن الجديد؛ ندخله أو نؤسسه، ونعيش الساعات الأخرى بوعي جديد ومتجدد. إن من طبيعة الانتظار، إذا طال واستطال أكثر مما يلزم، أن يحطم الأرواح، وأن يدمر النفوس، وأن يعمي الأبصار) (9)
وما يقوله الاحتفالي اليوم، بخصوص هذه البيانات الجديدة والمجددة، هو ما نفس ما قاله على هامش كتاب (الرؤية العيدية في العين الاحتفالية) والذي أكد فيه على أنه ( ينبغي أن نقتنع جميعا بالحقيقية المبدئية البسيطة والأساسية التالية، وهي أن هذا الكتاب ـ ككل الكتب الاحتفالية ـ لا يسرد تاريخ شخص الاحتفالي في الاحتفالية، وهو بهذا لا يحيل على احتفالية موجودة في الماضي إلا من أجل أن يؤسس احتفاليات أخرى موجودة في المستقبل الآتي، وبهذا فإن ما يقدمه هذا الكتاب هو أساسا إضافات فكرية وفلسفية أولا، وهو جماليات في البنيان الاحتفالي، كما يمكن أن يتجلى في فنون متحدة ومتضامنة تسمى المسرح ) (10)
ولهذا، فإننا نوصي القارئ ألا ينظر إلى الخلف، وأن يعرف أن هذه البيانات وجهتها المستقبل الآتي، وبأن أصدق وأجمل وأكمل كل الاحتفاليات هي الاحتفالية الجديدة، والتي هي احتفالية ما بعد الجائحة
البيان كلمة وبدء الخلق كلمة
هي بيانات تحمل اسم مدينة أريد لها أن تكون مدينة المال والأعمال، ونصر نحن الاحتفاليين على أن تكون مدينة الاحتفال والجمال والخيال، والأصل في البيان أنه كتابة حية على أوراق الحياة الحية، وكل فعل في الحياة وفي الواقع وفي التاريخ ما هو إلا كتابة، وليس ضروريا أن تكون هذه الكتابة بالحبر وبالأقلام، وقد تكون بالأجساد وبالأرواح الحية، وتكون بهذا أصدق من الأوراق المسودة، وتكون أبلغ وأكثر بيانا وتبيينا منها، وبهذه فقد كان الاحتفاليون ـ في حقيقتهم ـ مجرد بيانات حية تمشي على الأرض، وهم في حياتهم اليومية يمارسون فعل الكتابة حقا، وهذا ما قد يظهر لكل الناس أو لبعض الناس، وهم في أعماق أنفسهم الخفية يؤمنون بأنهم لا يكتبون، وأن الكتابة الحيوية فقط تنكتب بهم وهم لا يشعرون، أو أنهم فقط يرسمون بأجسادهم وأرواحهم وأقلامهم ما تمليه عليهم الحياة، وأيضا ما يمليه عليهم التاريخ، وما تمليه عليهم الأيام والليالي، وما تمليه عليهم الحقيقة، وما يمليه عليهم الجمال، وبهذا تكون الاحتفالية صوت الحياة، وتكون إبداع الوجود، قبل أن تكون فكر وأدب وفن وإبداع وصناعة الموجودات الإنسانية، والتي اقتضت الصدفة الموضوعية الخية، أن تكن لهذه الموجودات أسماء، وأن نكون نحن أصحاب هذه الأسماء، وأن تظل اللائحة مفتوحة في وجه الأسماء التي قد تأتي غدا، أو في يوم من الأيام وفي عام من الأعوام
ولأن الزمن اليوم هو زمن آخر مختلف، شكلا ومضمونا، فقد اقتضى السياق التاريخي الجديد، بكل محمولاته أن تكون هذه البيانات الجديدة، وأن تكون نسبة الأمل فيها أكبر، وأم تكون نسبة الفرح فيها أكبر، وأن تكون نسبة الإيمان بالاحتفال والعيد فيها أكبر وأخطر، لأن هذه البيانات تأتي بعد سنتين من السجن ومن المنفى ومن الغياب والتغييب ومن ممارسة الحياة مع وقف التنفيذ
والأصل في هذه البيانات هو أنها احتفالية، ونقول احتفالية ولا نضيف أية كلمة أخرى، ويكفي أن نقول بأنها فيض أرواح إنسانية حية، وأنها مكتوبة بكل اللغات الإنسانية الحية، وأنها إحساس شعري وتمثل شعري لعالم لا يمكن أن يكون، أو لا ينبغي أن يكون إلا قصيدة شعر، وما يميز هذه الكتابة البيانية أنها منحازة للإنسان، بكل ألوانه وثقافاته ولغاته، وأنها مؤثثة بعشق الحياة، وأنها تدعو إلى الحضور ولتلاقي، جسدا وروحا، وليس فقط من خلال الصورة، كما عشنا ذلك زمن حظر التلاقي وحظر الاحتفال ومنع العيد والتعييد
هي بيانات تكلم الناس بلغة الناس، أو بالكلمة السحرية والشعرية، إيمانا منها بأنه في البدء كانت الكلمة، وبعد وجودها جاء الوجود، وبأنه في ( الختام) أيضا لن تبقى إلا هذه الكلمة، وبهذا فإن هذه البيانات تحتفي بالإنسان المتكلم، وذلك في عالم ينطق فيه كل شيء، ينطق الإنسان على الأرض، وتنطق الطيور في السماء، وتنطق الأسماك في الماء، وينطق فيه حتى الحجر
والكلمة في هذه البيانات هي أساسا كلمة سوريالية أو صوفية، هي كلمة فوق واقعية، لها شكلها ولونها، ولها ضوءها وظلالها، وولها إيقاعها ومناخها، ولها سرا وسحرها، ولها ظاهرها وخفيها، ولها ولها جرسها وموسيقاها، ولها معناها المعجمي ولها معانيها الشعرية البعيدة والعميقة، والأصل في هذه الكلمة أنها مكتوبة بحس إنساني، شعري الصياغة وصوفي الرؤية ، وأنها، في معناها الحقيقي، فيض أرواح وأنها ظلال اللحظة التاريخية
وأعتقد أن من لا يتذوق هذه الاحتفالية؛ الناطقة والمتكلمة والكاتبة والمنكتبة، وذلك بفعل حيوية الحياة، وبفضل طاقاتها الحيوية الجديدة والمتجددة، وأيضا، فإن من لا يراها رؤية شاملة وكاملة، أي بعين الحدس الصوفي قبل عين الحس المادي، وأن من لا يقرأها في كل لغاتها وأبجدياتها وأبعادها المتعددة، وفي كل مستوياتها المتجددة والمتنوعة، والظاهرة والخفية معا، وأن من لا يتمثل هذه الكلمة، في حركيتها واليومية التاريخية معا، فإنه لا يمكن أن يفهم في هذه البيانات شيئا كثيرا، وأقصى ما يمكن أن يصل إليه، هو رسم الكلمات ووشمها قبل جوهرها وروحها
إن الكلمة في الاحتفالية هي جزء من شجرة الاحتفالية، والتي هي بدورها أيضا جزء صغير من شجرة الوجود ومن شجرة الحياة ومن شجرة التاريخ ومن شجرة الفكر الإنساني والكوني العام والشامل، وإن فهم هذه الكلمة الاحتفالية، بشكل حقيقي، لا يمكن أن يتحقق بدون معرفة شجرة أنسابها الحقيقية، ولا بدون معرفة أسباب نزولها، ولا بدون معرفة السياقات التي ساقتها
ويمكن أن نتساءل: إن وجود بيانات مثل هذه، كتبت في مناخ احتفالي، بلغة احتفالية، وبأبجدية احتفالية، وبفلسفة احتفالية، وبحبر احتفالي، هذه الكتابة العيدية هل يمكن أن تقرأ قراءة غير احتفالية؟ وأن يدرك معناها ومبناها ومغزاها وعي غير احتفالي؟
بالتأكيد لا يمكن، وهذا أحد أكبر وأخطر أسباب فشل النقد المسرحي العربي، ولحد هذا اليوم، في معرفة هذه الاحتفالية، وفي قراءة عشقها للحياة والجمال قراءة شعرية عاشقة
بيانات أخرى لاحتفاليات أخرى
وعلى هامش كتاب ( الرؤية العيدية بين الاحتفالية والمأتمية) يقول الاحتفالي (وللكتابة الاحتفالية في هذا الكتاب، سواء في بعدها النظري الفلسفي، أو في مستواها الإبداعي ثلاثة أبواب واسعة وأساسية للدخول إلى أكوانها وعوالمها السحرية، والني هي ( باب الدهشة وباب القراءة وباب المشاهدة، فكن مثلي واختر لك منها واحدة، أو اخترها كلها، وادخل إلى عوالمها الفسيحة، وهناك سوف تلقاني وألقاك وتلقى كل الناس) (11)
قدر الاحتفالي أن يحكي، وقدر الكاتب أن يكتب، وقدر الرسول أن يحمل رسالته ويمشي بها إلى الناس، وأن يكون في رسالته فصيحا وبليغا،
وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي:
(من قبل هذا اليوم، وفي ذلك الفضاء المفتوح على الأرض والسماء، كنت دائما أنظر حولي في قلق، أو في شبه خوف.. هل تعرفون لماذا؟ قولوا لماذا.. لأن التجمع في الشارع العام، وفي المقاهي الشعبية، وفي الساحات العمومية لم يكن مسموحا به، ولأن الأنفاس الآدمية كانت دائما تحت المراقبة المشددة، ولهذا، فقد انتقلت الآن إلى هذا الفضاء المغلق، والذي هو مسرح أو هو شبه مسرح.. وليس ضروريا أن يكون اسمه المسرح حتى يكون مسرحا.. لقد انتقلت إليه حتى أريح وأستريح، وحتى تستريحون أنتم أيضا، ونكون جميعا في مأمن من .. رجال الأمن..
والاحتفالية اجتهاد مجتهدين، اجتهاد قائم على أساس التجربة الحية وعلى أساس التجريب الميداني في الحياة اليومية، وليس خارجها، ولا داخل المختبرات ( العلمية) والجمالية المغلقة، وليس كل ما يأتي به هذا التجريب صائب، وقد تكون به أخطاء، وكل الأخطاء يمكن تصويبها، وقد يكون به نقص، وكل نقص يمكن تداركه، وبحسب الاحتفالي فإن ( من حق المجتهد أن يخطئ، والأفكار الخاطئة يمكن تصويبها وتصحيحها والمهم هو أن توجد هذه الأفكار أولا..) (12)
وزمن الجائحة، كما عاشه العالم، هو بالتأكيد زمن غير احتفالي، ويمكن أن نقول عنه بأنه زمن عبثي أو هو زمن عدمي أو هو زمن مأتمي أو هو زمن قيامي أو هو زمن كابوسي، ولقد توقفت فيه عجلة التاريخ عن الدوران، وتجمدت فيه عقارب الساعات، وتكسرت فيه كل الأحلام، وأصبحت كل الأيام فيه يوما واحدا، وأصبحت كل الساعات ساعة واحدة، إن ذلك الزمن إذن، قد كان زمنا ظالما ومخيفا ومرعبا وساكنا وصامتا وفارغا وعبثيا، ولقد سرق من التاريخ أجمل ما فيه، وسرق من لإنسان أصدق حالاته ومقاماته، وسرق من الأجساد الحية أغلى ما لديها، ولقد عطل الأيام والليالي ومنعها من الحركة، وجعلها تدور حول نفسها، وتكرر ذاتها، واليوم، وقد خرجنا من ذلك النفق المظلم، فإن المطلوب منا هو أن نستعيد حياتنا وحيويتنا، وأن نسترد حريتنا واستقلاليتنا، وأن نقبض على أحلامنا وأوهامنا الطائرة، وأن نعود إلى شطحاتنا الصوفية وإلى هذياننا الخلاق، وأن نعمل كلنا، في الفكر والفن والعلم والصناعة والرياضة، غلى تجديد الأسئلة القديمة وعلى استعادة ذلك الزمن الضائع، وأن نعيد للزمن حركيته وحياته وحيويته، وأن نعيد لأيام الأسبوع السبعة المعروفة يومه الثامن، والذي و يوم الاحتفال ويوم العيد والتعييد، وأن نضبط ساعاتنا الجديدة على التوقيت الاحتفالي الجديد، وأن نجعل عقارب هذه الساعات تمشي باجاه البهجة والفرح وباتجاه العلم والحكمة وباتجاه الفنون الإنسانية الحية، وهذا ما سوف أن نبينه في هذه البيانات، والتي أرى من الضروري أن يكون المدخل إليها عبر القناعات التالية:
إن الأصل في هذه الاحتفالية، والتي هي روح الناس وروح التاريخ وروح الحياة والحيوية، هو أنها احتفاليات، متعددة ومتنوعة ومتمددة ومتجددة، وهي احتفاليات بهيئات وبـأعداد لا تعد ولا تحصى، ونعرف أن تلك الاحتفالية التي كانت، في القرن الماضي، وفي الألفية الماضية، قد أصبحت اليوم في ذمة التاريخ، وهي تعني الباحثين والدارسين والنقاد، وتعني المؤرخين قبل غيرهم/ أما الشيء الذي يهم الاحتفاليين، اليوم وفي مستقبل الأيام والأعوام، فهي تلك الاحتفاليات لأخرى، الغائبة والغامضة والممكنة الوجود، والتي نبحث عنها، ونسعى إليها، ويهنا نكون قد عرفنا صورتها ـ أو بعض صورها، في مراحل تاريخية معينة، ويهمنا أن نعرف وجوهها الأخرى، ونعرف حالاتها وقاماتها الأخرى، وبهذا يكون علينا أن نقول اليوم الكلمة التالية
ما في جبة الاحتفالي إلا الأحلام، الصادقة والعاشقة والمتلاحقة، والتي يتبع بعضها البعض، وينسخ بعضها البعض، ويتجاوز بعضها البعض، وكلما ضاق هذا الواقع أكثر، إلا واتسعت الأحلام الاحتفالية؛ هكذا قال المواطن الاحتفالي بالأمس، وهكذا يقول اليوم وغدا وفي كل الأيام والأعوام، وأجمل وأنبل وأصدق كل الأحلام ـ في شرع هذا الاحتفالي، وفي مشروعه ـ هي الأحلام التي تمتد من الأرض إلى السماء، والتي تخترق الأمكنة والأزمنة، والتي تتم بأعين مفتوحة عن آخرها، والتي تكون أحلاما مشتركة ومقتسمة، والتي تنتقل من درجة الأنانية الفردية البغيضة إلى درجة (النحنية) الجماعية السعيدة، والتي تكون في مستوى أحلام مجتمعات أو في مستوى أحلام أمم أو في مستوى أحلام الإنسان، أو أحلام كل الإنسانية، والباحثة في أحلامها المشروعة عن مدينة احتفالية حقيقية، وذلك في زمن احتفالي حقيقي
وفي هذا البدء المستعاد، أو المتجدد، ينبغي أن نقول ما يلي:
هذا الذي بين أيديكم الآن، هو بيان جديد آخر لا يد منه، وأقول عنه جديد، مع علمي بأن أصله قديم، وأن روحه قديم، وأن معناه الأساسي والمحوري والجوهري قديم أيضا، ويأتي اليوم هذا البيان القديم ـ الجديد في موعده، ليس قبله ولا بعده، ولأنه بيان احتفالي وعيدي، فإنه يأتي في عيد المسرح والمسرحيين العرب، والذي هو مهرجان المسرح العربي بمدينة الدار البيضاء المغربية، ونعطيه اسم المدينة العالي والذي هو كازابلانكا، إيمانا منا بأن الاحتفالية أكبر وأخطر من أن تكون مغربية أو عربية فقط
هو بيان كتب بوعي احتفالي وبروح احتفالية وبمنطق احتفالي وبحبر احتفالي متعدد الألوان، ولقد جاءت به شروطه الجديدة والمستجدة، وساقته سياقاته التاريخية الخاصة، ولقد كتب بغيرة احتفالية على إنسانية الإنسان، وعلى حيوية الحياة، وعلى مدنية المدينة، وعلى جمالية الجمال، وعلى احتفالية العيد والتعييد، وذلك في كون المسرح المسرحي أولا، وفي كل مسرح الوجود بشكل عام، وهو بهذا رسالة مدنية وإنسانية إلى ذلك الآخر الذي يسكننا، والذي لا يمكن أن نكتمل إلا به وفيه ومعه، لأن شرط العيد الأساسي هو الحضور، وهل يكون المهرجان ـ في معناه الحقيقي ـ إلا الحضور والتلاقي والحوار والاقتسام والبهجة والفرح المشروع؟
وقبل هذا الموعد الجديد كان التلاقي ممنوعا، وكان الفرح مؤجلا، وكان الآخر مبعدا ومنفيا، وكان الرعب وحده يملأ النفوس والأرواح، ويملأ كل الأمكنة الفارغة
إن الاحتفالية تؤمن بأن الآخر هو الوجه الآخر للأنا والنحن، وأنه لا معنى لمسيرتنا في الحياة، وفي التاريخ، بدون وجود طريق نمشي فيه جميعا، وبدون رفيق يقتسم معنا الرحلة الوجودية، ويقتسم معنا نفس الأفكار ونفس الاختيارات ونفس التوجهات ونفس الحالات ونفس المقامات ونفس المقاصد والغايات ونفس اللغات الإنسانية الحية
ونرى من الضروري أن نطرح على أنفسنا الأسئلة الأساسية والجوهرية التالية:
ــ هذه الحياة، هل كان يمكن أن يكون لها معنى، وأن تكون لها قيمة، بدون وجود الناس الأحياء فيها؟
ــ وهل هذه الاحتفالية ـ بكل أحلامها وأوهامها وهذيانها وشطحها ـ إلا شكل من أشكال البحث عن الأحياء الحقيقيين، وذلك في الحياة الحقيقية، وفي الزمن الحقيقي، وفي المدن الإنسانية الحقيقية، وفي الفنون وفي العلوم وفي الصناعات الحقيقية؟
ــ وهذا الذي نسميه العيد، والذي هو يوم من الأيام، أو هو ليلة من الليالي، هل كان يمكن أن يكون عيدا حقيقيا، لو لم يسبقه اجتهاد ومعاناة وانتظار وبحث وتصور وسعي وانتظار وخوف وقلق، وذلك باتجاه الأجمل والأكمل، وذلك في الحالات والمقامات، وفي التصورات والمشاهدات، وفي الأفكار والاختيارات؟
إن أسوأ كل الناس، في المنظور الاحتفالي، هو من لا يتصور شيئا، وهو من لا يتخيل شيئا، وهو من لا يفعل شيئا، وهو من لا ينتظر شيئا، وهو من لا يعشق شيئا، وهو من لا يؤسس شيئا، وهو من لا يجدد حياته القديمة بالعيد الجديد
وأسوأ كل الناس أيضا، هو من تتشابه كل أيام حياته، لتكون كلها يوما واحدا، لا شيء فيه يبهر، ولا شيء فيه يدهش، وبحسب الاحتفالي، العاشق للجديد والتجدد، فإن أجمل وأصدق وأسمى ما في هذا العيد هو أنه مجرد ساعة في عمر الزمن، وتحديدا فهو تلك الساعة الأخرى الحقيقية، والمدهشة والمقنعة والممتعة دائما، والممكنة الوجود في هذا الوجود، والتي يمكن أن تختزل ـ في لحظتها المحدودة ـ كل الوجود اللامحدود) (13)
وهذا البيان الجديد، في هذا الزمن الجديد، له أسبب نزوله بكل أكيد، والتي هي أسباب منطقية ومعقولة، وبهذا فهو بيان فكري أملاه علينا وعليكم وجود شيء غير قليل من الغموض، وذلك في الساحة المسرحية العربية بشكل خاص، وفي كل المسرح العالمي المعاصر بشكل عام، وهو غموض يسعى هذا البيان لأن يبيّنه ويوضحه ويشرحه ويحلله، كما أن من مهام هذا البيان أن يرصد الثابت والمتغير والأساسي والهامشي في خرائط الروح الإنسانية وفي خرائط الإبداع الفكري والجمالي والأخلاقي في هذا الزمن المستجد؛ في الكون المسرحي أولا، وفي كل عوالم وأكوان الفنون والآداب والعلوم المختلفة ثانيا
هو بيان يبدأ اليوم من حيث انتهت كل البيانات الاحتفالية السابقة، وقد يراجع بعض الأفكار السابقة، ولكنه أبدا لا يمكن أن يتراجع عنها، لأن التراجع ليس مهنة احتفالية، وما يميز هذا البيان الاحتفالي أيضا، هو أنه يغني الجوانب الغنية في جسد الاحتفالية، أو يزيدها غنى، وهو بيان واضح صريح وفصيح، يقول اليوم ويكتب كل ما ينبغي أن يقال ويكتب، وهو بهذا إضافة كمية ونوعية إلى كل البيانات الاحتفالية السابقة، والتي تحمل أرقاما تراتيبية، من الأول إلى السابع، أو التي تحمل أسماء كثير من المدن المغربية والعربية، أي بيان تازة وبيان عمان وبيان الرباط وبيان الشارقة وبيان طنجة وبيان أم درمان بالسودان وبيان سيدي قاسم وبيان أربيل بالعراق، واليوم، يأتي دور مدينة الدار البيضاء، أو كازابلانكا، والتي شهدت ميلاد التيار الاحتفالي في أواسط السبعينات من القرن الماضي، والتي كتب فيها أول بيان احتفالي، وفيها قدمت أولى المسرحيات الاحتفالية من طرف المسرحيين الاحتفاليين الرواد، ولقد جاء الوقت، ليكون لهذا البيان الجديد، اسم ( بيان كازابلانكا للاحتفالية المتجددة)
وبالتأكيد فإن صدور هذا البيان، يأتي استجابة للحاجة إلى صدوره، الآن هنا، وهو بهذا شهادة صادقة على الانعطافة التاريخية التي عرفها العالم بعد جائحة كوفيد، والتي أصابت الروح الاحتفالية للإنسان بأكبر عطب في التاريخ، وذلك لأنها أغلقت البيوت، وأقفلت المسارح، وأبعدت الإنسان عن الإنسان، ونابت صورة الناس عن حضورهم، وأصبح الآخر مشكوكا فيه، وتقنعت كل الوجوه، وأصبحت الكمامة إجبارية، وأصبح الاختلاط ممنوعا، والتلاقي مؤجلا، وأصبح عدم الاقتراب من الناس مطلبا ملحا يتردد في كل وسائل الإعلام، المكتوبة والسمعية والبصرية
الاحتفالية من 1976 إلى سنة 2023 عمر كامل عاشه الاحتفاليون فكريا وأدبيا وجماليا وأخلاقيا، وظهرت فيه أسماء، وتلتها أسماء أخرى شابة، وظلت الاحتفالية مفتوحة على الأصوات الجديدة، وعلى الإضافات الفكرية والجمالية الجادة
يقول الولد قنبلة في مسرحية ( الدجال والقيامة)
( أيها الناس، من كان منكم قنبلة مثلي فلينفجر.. لينفجر بقوة، حتى أسمعه أنا، وتسمعه كل الدنيا، خائن من أخفى انفجاره وصادره، خائن نفسه وعصره وقومه) (14)
والأساس في هذه الاحتفالية هو أنها كانت ـ وما تزال ـ ثورة فكرية وجمالية وأخلاقية واجتماعية وسياسية لها سياقاتها وأسباب نزولها ، وهي (ثورة عاقلة ومسئولة، ثورة على حمق الواقع والوقائع وهي تهدف إلى تجديد القديم والى إنطاق الصامت والى تحريك الساكن والى استحضار الغائب والى استرجاع الماضي بشكل أجمل، والى توضيح الغامض، وإلى تصحيح الخاطئ، وإلى إحياء ما يستحق الحياة من الأفكار ومن القناعات المختلفة، وإلى تجميل صورة الوجود وصورة الموجودات، وإلى اقتراح تعييد في الجوانب المأساوية من حياة الناس ومن حياة المجتمعات، وإلى تفكيك المركب تركيبا خاطئا، وإلى إعادة تركيبه بشكل سليم) (15)
ولكي لا تكون الاحتفالية اليوم، خائنة نفسها وخائنة عصرها وخائنة لروحها الثورية وخائنة للإنسان والإنسانية، فإنها تصدر اليوم هذه البيانات الجديدة، وذلك من أجل أن تقول وأن تكتب وأن ترسم، بكل الألوان، كلمتها التي ينبغي أن تقال، وأن تكتب، وأن ترسم، وأن تذاع في كل الناس
الحياة مخاطرة وجودية والاحتفالية أيضا
لقد أكدت الاحتفالية دائما على الحياة والحيوية، وكانت بهذا ضد صناعة الموت وضد تجارة الموت وضد تجار الموت، وأن هذه الحياة، في معناها الحقيقي، هي أساسا مخاطرة، وجودية، هكذا يقول الاحتفالي، والداخل لهذه الحياة مولود والخارج منها مفقود، وما بين الولادة والفقد تمتد حياة الإنسان، والتي يؤثثها فعل الاحتفال، أو حالة البحث عن الاحتفال، أو يؤثثها الخوف والقلق مما يمكن أن يتهدد هذا الاحتفال، والذي قد يكون مرضا، أو يكون جائحة، أو يكون حربا، أو يكون فقط، مجرد خوف وقلق على مصير الاحتفال، والذي هو حق وجودي
ويرى الاحتفالي انه لابد من المخاطرة، لأن هذه الحياة التي نحياها، تستحق أن نخاف عليها، وأن نصونها، وأن ندافع عنها، ويرى هذا الاحتفالي أن في المخاطرة شيء من النجاة، وعلى أن هذه الحياة لا يمكن أن تكتمل إلا إذا بلغت درجة القلق، ومن الخوف من الفقدان، ومن الموت، وبهذا نكون أكثر إحساسا بهذه الحياة، وبقيمتها، وبجمالياتها، كلما اقتربنا أكثر من الموت، ونصبح أكثر تعلقا بهذه الحياة، وذلك في معناها الصادق والحقيقي والشفاف ( وبقدر زيادة جرعة هذه المخاطرة، فإن فرص النجاة تكون أكبر أيضا، ويصبح من حق الناجين ـ وحدهم ـ أن يحتفلوا .. يحتفلوا بالحياة التي أخرجوها من دائرة الموت، ويحتفلوا بالعدل الذي أخرجوه من براثن الظلم والظالمين، ويحتفلوا بالغنى النفسي والذهني والروحي، والذي حرروه من غول الفقر والبؤس) (16)
هذا الكلام كتبته الاحتفالية قبل الجائحة، وكأنها كانت تستشعر ما يمكن أن يتهدد الاحتفال العيدي، بالحياة وبالحيوية وبالعلاقات الإنسانية من مخاطر، وكان هذا اقتناعا منها بأن المأتم هو الوجه الثاني للاحتفال، أو أنه أخوه السيامي، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي ( إن الاحتفال وجود بين حدين متقابلين ومتكاملين؛ حد الميلاد وحد الموت، فمن هذا لاحتفال الوجودي نبدأ إذن، وإليه ننتهي نهاية مؤقتة، وما هذه الحياة إلا سلسلة متماسكة ومترابطة من الاحتفالات الوجودية والاجتماعية والوطنية والكونية؛ احتفالات يتبع بعضها البعض، وهي تسير في خط دائري، تماما كما تدور الأيام والليالي، وكما تدور الكواكب السيارة في مساراتها، ففي ساعة المولد نحتفل بالحياة التي نستقبلها، وفي ساعة الموت نحتفل بالحياة التي نودعها، وفي إقامة الذكرى نحتفل بالحياة التي عشناها بشكل حقيقي) (17)
نعم، إن تاريخ الاحتفالية هو نفس تاريخ أسئلتها ومسائلها، والتي هي أسئلة ومسائل كبيرة وجادة وجديدة ومتجددة دائما، وبعضها أكبر من بعض، وأخطر من بعض، وهي تكشف كلها عن درجات الوجود المتعددة، وعن درجات الارتقاء في مساراتها المتنوعة، وذلك في عمر هذه الاحتفالية الواحد والأوحد، واليوم، وبعد ما يقارب نفس قرن من البحث ومن الجهاد والاجتهاد، تدرك هذه الاحتفالية درجة أخطر كل الأسئلة فيها، والذي هو سؤال
( وماذا بعد؟)
والذي يأتي بعد أن قطعت هذه الاحتفالية أشواطا من عمرها، وبعد أن أجابت على كثير من الأسئلة، وتفاعلت مع كثير من المسائل والقضايا بجدية، ويمكن أن يكون لهذا السؤال ـ الدرجة عنوان، ويكون هو الخوف وهو القلق، وذلك من فعل مكر التاريخ ومن فعل زئبقية الأيام، والتي قد لا تكون احتفالية ولا عيدية
وبحسب الاحتفالي، فإنه ليس بإمكان أي أحد ـ ولا من حق أي كأن، أن يطرح على نفسه سؤال (وماذا بعد؟) لأن الأصل في هذا السؤال ـ الدرجة، أن يكون استشرافا لخطوات أخرى ممكنة الوجود، وأن يكون بحثا عن درجة أعلى وأبعد وأصعب وأكثر حقيقة وجمالية، وذلك في فضاء الزمن الآخر الممكن الوجود، وبهذا فهو أساسا درجة في سلم الوجود، وفي سلم الخلق والعطاء وفي خرائط الكشف والإبداع، وهذا معناه أن من ليس له ( ما قبل) لا يمكن أن يسأل أو يتساءل عن (المابعد)
وبحسب الاحتفالية، فإن أسوأ كل الناس هو من لا يفعل الآن شيئا، وهو من لا يتوقع شيئا، وهو من يرتجي شيئا، وهو من لا يتصور شيئا، وهو من لا ينتظر شيئا، وهو من لا يعشق شيئا، وهو من لا يعمل من أجل الوصول إلى شيء من الأشياء، أو من أجل الوصول إلى حالة من الحالات أو إلى مقام من المقامات
والاحتفالية هي مسرح المابعد دائما، وفعل الاحتفالي، فكريا وجماليا، رهين بحدث كبير في التاريخ وفي حياة الجماعات والمجوعاتـ، والمجتمعات البشرية، والدرجة الأولى في المسار الوجودي للاحتفالية والاحتفاليين يمثلها مجموعة من هذه ( المابعد) لتاريخ الفكر وتاريخ العلوم وتارخ الفنون وتاريخ الصناعات، وبالنسبة للاحتفالية فقد جاءت بعد الحرب العالمية الثانية وبعد فترة ما بعد استقلال المغرب وكثير من الدول العربية والأفريقية، والتي كانت فترة احتفالية بامتياز، وتمثلها بشكل عفوي وتلقائي وحيوي فرحة الإحساس بالحرية والاستقلال، أما الدرجة الثانية والأخطر ـ في عمر هذه الاحتفالية ـ فتمثلها النكسة العربية الحزيرانية، والتي مثلت الاحتفال المعكوس، والذي هو الاحتفال المأساوي كما يمثله في المسرح القناع الباكي
وأما الدرجة الثالثة ـ في هذا العمر الاحتفالي ـ فيمثلها ما بعد سقوط جدار برلين وسقوط الإيديولوجيا وبداية عصر الإنسان وعصر الحرية والتحرر، وما بعد عصر سقوط الحجارة وسقوط الأوثان وسقوط الإيديولوجيا، وأما الدرجة الرابعة فيمثلها اليوم ما بعد الجائحة، والتي كانت جملة اعتراضية في تاريخ الإنسان والإنسانية، وكانت ضد ( إنسانية الإنسان وضد حيوية الحياة وضد مدنية المدينة وضد الفرح وضد العيد وضد التلاقي وضد الحضور
ومن طبيعة الاحتفال الحقيقي والسليم، أن يكون دائما في الزمن الاحتفالي، وأن يكون في المكان الاحتفالي، وفي الجغرافيا الاحتفالية، وأن يكون في المناخ الإنساني الاحتفالي، وأن يكون في الفضاء الاحتفالي، وفي الشروط الاحتفالية الحقيقة، يولد الاحتفال الحقيقي دائما، هذه هي الحقيقية الأبدية والسرمدية الخالدة، وهذه هي القاعة القديمة قدم التاريخ، ولكن هذه القاعدة لها استثناؤها، أو لها استثناءاتها فيها، وقد يعرف فعل الاحتفال ظروفا صعبة، خصوصا في زمن الحروب وفي زمن الأمراض والأوبئة وفي زمن الاستبداد السياسي، تماما كما يمكن لهذا الاحتفال أن يفقد معناه في السجن وفي المنفى وفي الغربة، وهذا ما جعل مسرحية ( الناس والحجارة) والتي يغيب فيها حضور الناس، أو الحضور مع الناس، وبذلك تكون ( احتفالية ناقصة ومعطوبة، لأن شرط الاحتفال الأساس هو الحضور والتلاقي، وهو الجوار والحوار، وهو الغنى والامتلاء لحد الفيض، وفي هذه ( الاحتفالية) المسرحية نجد الحجارة وحدها ويغيب الناس) (18)
وأي نوع من الاحتفال كان يمكن أن نقيمه في زمن الجائحة، مع الخوف والقلق، وفي ظل وجود شبح الموت، ومع وجود أبواب البيوت مغلقة والمسارح مغلقة والحدائق العامة مغلقة والمقاهي مغلقة والشوارع مغلقة والساحات مغلقة؟
إن الإنسانية، وقد خرجت بأقل الأضرار، من زمن الجائحة ومخلفاتها المرعبة والقاتلة، تعيش اليوم حالة التعافي، النفسي والجسدي معا، وتعيش في درجة النقاهة، وفي درجة استرجاع العافية والعفوية والروح الاحتفالية والعيدية
والأصل في فعل الاحتفال أنه موقف، وأن هذا الموقف قد يصل في حالات كثيرة إلى درجة أن يكون قضية، وأن يكون لفعل التعييد فيها معنى الترافع الصادق عن القضية الحقيقية والصادقة، وأجمل وأنبل الترافع هو الذي يتم بخصوص القضايا الإنسانية الكبرى والوجودية الكبرى، والترافع لصالح الإنسانية في وجه المرض والموت والغياب والعزلة والانعزال وفي وجه الغربة والمنفى، وهي بالتأكيد مرافعة شريفة ونبيلة، وهي غاية لا يمكن أن يدركها إلا الفكر الملتزم والفن الصادق والجميل
ونعرف أن الاحتفال، في زمن الجائحة هو فعل صعب بكل تأكيد، ولكنه فعل ممكن بأكثر من طريقة واحدة، وبأكثر من لغة، لأن الأمر يتوقف على عبقرية الإنسان، والتي هي عبقرية بلا ضفاف وبلا حدود، وإن هذا الاحتفال المسرحي، المصادر والممنوع والمقموع والمسكون بالخوف والحزن، هو بالتأكيد مثل الاحتفال المصادر في زمن الحرب، مع العلم أن هذه الجائحة كانت أيضا حربا وأنها كانت في معناها الحقيقي حربا عبثية وسوريالية وبلا معنى، لأنها مواجهة غير مرئية وغير منطقية وغير متكافئة مع المجهول ومع الغيب ومع الشبحي، وأيضا مع ذلك العدو الذي يقتلنا، والذي يتسلل إلى أجسادنا في غفلة منا
والاحتفال أساسا هو الحضور، وهو التلاقي، وهو المواجهة، وهو الحياة عن قرب، وفي تلك الظروف الاستثنائية، كان هذا المطلب البسيط والمنطقي مستبعدا، وقد أصبح كل شيء في تلك الأيام يتم عن بعد، وأصبح الإنسان حبيس الجدران الخرساء والصماء، يعيش وحده، ويحلم وحده، ويخاف وحده، ويمارس حياته وعيشه عن بعد، وقد يموت وحده في غرفة زجاجية، وبذلك فقد أصبح هذا المسرح أيضاـ، والذي هو احتفال إنساتي واجتماعي، يتم عن بعد أيضا، وأصبحت صورة الإنسان تغني عن جسده وعن روحه، ونحول وجوده الحي إلى مجرد صورة متحركة في العالم الافتراضي
لقد شكلت هذه الجائحة ضربة قوية وقاتلة للرؤية العيدية للوجود، وللنزعة الاحتفالية لدى الإنسان، ولكن الاحتفالي المتفائل دائما، لم يفقد الأمل في الحياة، وظل مقتنعا بأن الحياة ستنتصر في النهاية، وبأن المأتم والمأتمية عابران، وبأن وحدهما العيد والاحتفال هما الحقيقية الأبدية والغالية، وأن من الممكن أن تخسر الرؤية العيدية والاحتفالية معركة من المعارك، ولكنها أبدا لا يمكن أن تخسر الحرب، لأنه ـ في النهاية ـ لا شيء يمكن أن يعلو على صوت الحياة وعلى صوت الجمال وعلى صوت الكمال وعلى صوت العيد وعلى صوت عبقرية الإنسان
ولعل أخطر ما يمكن أن يتهدد احتفالية هذه الحياة ـ في حيويتها وحريتها ـ هو السجن وشخص السجان، وأن يعيش الإنسان الحر معتقلا بين الجدران، وذلك بدل أن يعيش بين الناس ومع الناس، وهذا المعنى هو ما تترجمه المسرحية التي كتبت سنة 1976 والتي تنبأت لسقوط جدار برلين سنة 1989، والتي تحمل عنوان (الناس والحجارة) والتي اعتبرها الاحتفالي صرخته المدوية أمام فوضى العالم، وأمام عبثية العالم، وبهذا فقد كانت تلك المسرحية احتفالية ناقصة ومعطوبة، لأن شرط الاحتفال الأساس هو الحضور والتلاقي، وتقنعنا هذه المسرحية ( بالحقيقة المرعبة التالية، وهي أن أقدم سجن في الوجود هو سجن الوجود، وبان أخطر سجن في الحياة هو سجن الحياة، وبأن أقدم سجين في التاريخ هو هذا الذي يسمى الإنسان، ولعل أخطر جرائم هذا الإنسان، الحي والعاقل والمحتفل والمعيّد، رغم غياب كل شروط التعييد، هو أنه كائن يصر على أن يكون إنسانا بشكل حقيقي، وأن يكون حيا وعاقلا ومشاغبا ومحتفلا ومعيّدا دائما، أما أخطر أعداء هذا الإنسان الناطق والمتحرك والمتجدد، فتتمثل في صمت الحجارة الخرساء والجامدة، كما تتمثل في غياب الحياة والأحياء فيها، والحياة الحقيقية بكل تأكيد، وليس تلك الحياة التي هي مجرد صور سينمائية متحركة في هذا العالم المتحرك) (19)
ورغم أن الواقع كان ضد فعل الاحتفال، وأن فعل التعييد فيه قد كان مؤجلا إلى أجل غامض ومبهم وعير محدد، فإن الاحتفالي لم يكفر بالاحتفالية، ولم يستبدل المسرح بالصورة، لأنه ظل مقتنعا بأن الزمن الاحتفالي هو أفق بعيد جدا، ولقد أسست هذه الاحتفالية ( منظومتها الفكرية والجمالية ضدا على إكراهات الواقع، وضدا على سلطته وسلطانه، وضدا على مجريات الوقائع) (20)
الاحتفالي والاحتفالية في درجة المابعد
يقول الحكواتي في تلك الاحتفاليات المسرحية، والتي تحمل عنوان (مقامات بهلوانية)
(من قبل هذا اليوم، وفي ذلك الفضاء المفتوح على الأرض والسماء، كنت دائما أنظر حولي في قلق، أو في شبه خوف.. هل تعرفون لماذا؟ قولوا لماذا.. لأن التجمع في الشارع العام، وفي المقاهي الشعبية، وفي الساحات العمومية لم يكن مسموحا به، ولأن الأنفاس الآدمية كانت دائما تحت المراقبة المشددة، ولهذا، فقد انتقلت الآن إلى هذا الفضاء المغلق، والذي هو مسرح أو هو شبه مسرح.. وليس ضروريا أن يكون اسمه المسرح حتى يكون مسرحا.. لقد انتقلت إليه حتى أريح وأستريح، وحتى تستريحون أنتم أيضا، ونكون جميعا في مأمن من .. رجال الأمن..) (21)
وما كان يريده الاحتفالي، وما كان يسعى إليه، وما كان يعو إليه ويحرض عليه، سواء في البيانات أو في المسرحيات، أو في الندوات والمحاضرات والحوارات الصحفية، لم يكن دائما مباحا ومتاحا، وكانت دونه الأمراض السياسية والعقائدية، وكانت دونه الأوبئة التي توجها وباء كورونا، والذي عطل الحياة اليومية لكل الناس، وأوقف الأعياد والاحتفالات، والذي أصبحت الحياة المدنية فيه محكومة بقانون الطوارئ الصحي، وعن هذا الوباء، المناقض والمضاد، لإنسانية الإنسان وحيوية الحياة ومدنية المدينة، يقول الاحتفالي:
( وترى الاحتفالية أن هذا الوباء الفيروسي ينبغي ألا ينسينا مقاومة كل الأوبئة الأخرى، والتي هي الوباء الاجتماعي والوباء العقائدي والوباء الفكري والوباء السياسي، وعليه فإنه ينبغي تلقيحنا ـ فكريا وجماليا وأخلاقيا ـ ضد كل هذه المرض والأوبئة المختلفة ) (22)
في كتاب ( الحكواتي الأخير عبد الكريم برشيد) يطرح الكاتب عبد الرزاق الربيعي السؤال التالي ( وإذا سألتك عن أجمل الأشياء في الاحتفالية) ويكون الجواب التالي (أعتقد أن أجمل ما في هذه الاحتفالية هو رؤيتها العيدية للحياة، وهو مسيرتها الغنية، وهو مسارها الحافل بالأفكار وبالمواقف، وهو صدقها وصدق كتاباتها وإبداعاتها، وهو جديتها في الفن والفكر والحياة، وهو عنفها وعنفوانها، وهو صداميتها وجرأتها في الحق، وهو إصرارها على الحضور دائما حيثما ينبغي أن تكون، وهو قديمها المتجدد، وهو جديدها الذي لا يبلى، وهو ثباتها على مبادئها، وهو انحيازها إلى الحقيقة، وهو حيويتها وحركيّتها، وهو محمولاتها الفكرية، وهو غناها الروحي والوجداني، وهو دفاعها عن أفكارها حتى يتبين لها أنها خاطئة، وحتى يأتي ما يثبت عكسها، ومن يقترح بديلا عنها، وأن يكون ذلك البديل جديدا ومقنعا وممتعا) (23)
والمفروض في المابعد دائما أن يكون أغنى وأصدق وأعلى وأحلى وأجمل وأكمل وأنبل، وأن يكون أكثر حياة وحيوية، وأكثر حرية، وأكثر بهجة، ولا شيء أجمل من الأمن بعد الخوف، ومن العافية بعد المرض، ومن اليقين بعد الشط، ومن الاحتفال بعد الانتصار
واليوم، ونحن نصدر هذه البيانات الجديدة، فلكي نحتفل بانتصار العيد على المأتم، وبانتصار الإنسان على الوحش، وبانتصار التلاقي على التباعد، وبانتصار الفرح على الحزن، وبانتصار الحياة الواقعية على الحياة الافتراضية، ونعتبر أن الإنسانية اليوم تعيش حالة التعافي، والتي لا يمكن أن تكون إلا حالة احتفالية بامتياز، وأنه بعد ذلك المرض المرعب، يكون من حقنا أن نعيش فترة النقاهة، وأن نحاول بالفن الجميل وبالفكر النبيل وبالإبداع الجمالي الصادق، أن نستعيد ابتسامتنا الحقيقية، وأن تسترد فرحنا الذي كان، وأن نحاول أن نسترد ذلك الزمن الضائع، والذي هو زمن احتفالي وعيدي حقيقي، حقا، لقد ضيّعت الإنسانية زمنا ثمينا من عمرها، وعاشت شهورا طويلة من الخوف والرعب ومن الشك، وحق لها اليوم أن تعيد للاحتفالية زمنها، وذلك في البيت والشارع وفي السوق وفي المسارح وفي الحدائق العامة وفي الملاعب الرياضية وفي كل الأمكنة المختلفة
وبالتأكيد فإن هذا ( المابعد) الاحتفالي لا يمكن أن يشكل قطيعة كاملة وتامة مع ذلك (الماقبل) المأتمي والعبثي الذي ( كان)، لأنهما معا فعل حيوي واحد أوحد، وهما يمشيان ويسران في نفس المسار، ولكن الفعل الاحتفالي الجديد يسير بإحساس آخر مختلف، وبوعي آخر مغاير، وهو فعل جديد ومتجدد ومجدد، وبغير هذا، فإنه لا معنى لوجوده، والأصل في هذا ( المابعد) العيدي والاحتفالي أن يكون أكثر عشقا للحياة والحيوية، وأن يكون أكثر اقتناعا بأن الفرح الإنساني هو الأصل، وأن الباقي كله تفاصيل
وبالتأكيد فإن هذه الاحتفالية لم مساء الأمس، ولا تولد هذا اليوم، ولم تخرج إلى الوجود بضربة سحرية، وهي اليوم سيرة ومسار أجساد ونفوس وعقول وأرواح حية، وهي طريق وخطوات على الطريق، هي ذاكرة وتاريخ، وهي فعل سابق في أعمار إنسانية سابقة، وفي أعمار أخرى آتية في الطريق، وبهذا يكون من حقها اليوم، وقد قاربت أن تصل إلى نصف قرن من عمرها، أن تطرح على نفسها السؤال التالي:
وماذا بعد؟
وأعتقد أن طرح هذا السؤال هو أساسا درجة من درجات الفعل والخلق والإبداع، ومن درجات الارتقاء الفكري والعلمي والجمالي والأخلاقي، وهو بهذا شهادة على أن هذه الاحتفالية لها ماض صنعته وأبدعته، وهو موجود خلفها، وأنه بهذا الفعل المؤسس قد أصبح من حقها أن نتقل إلى الدرجات الأعلى والأسمى والأبعد، وتؤكد هذه الاحتفالية دائما ـ في أدبياتها ـ على أن من لا يملك الماقبل لا يحق له أن يتساءل عن المابعد، وهذه الاحتفالية هي في الأصل حركة في التاريخ، وهي أحد صناع هذا التاريخ الحديث والعاصر، والذي هو تاريخ الفكر وتاريخ الفنون وتاريخ العلوم الإنسانية المعاصرة، إن مهمة التطوير والتجديد والتحيين ليست بالمهمة السهلة، وعليه، فإنه لا يمكن أن يكون لها معنى، إلا بالنسبة لمن له شيء يمكن أن يجدد وأن يطوّر وأن يحيّن وأن يثوّر وأن يجدّد، ومن الممكن أيضا، أن تتم مراجعة هذا الشيء الموجود، كليا أو جزئيا، أو أن يتم تعديله أو تصويبه أو تنقيحه أو إغناؤه بالإضافات الجديدة، وهذا هو ما فعلناه من قبل، وهو نفس ما نفعله الآن هنا، وهو نفس ما سوف نفعله في مستقبل الأيام والأعوام القادمة
المستقبل يبدأ من الماضي، هكذا تقول الاحتفالية، ومن لا ماضي له، لا يمكن أن يكون له مستقبل، والاحتفال الجديد هو نفس الاحتفال القديم، يأتي في نفس المناسبة نعم، ولكن بإحساس جديد، وبوعي جديد، وبحالات جديدة، وبأزياء جديدة، وبعلاقات جديدة
وكما أنه لا يمكن تصور مجتمع من المجتمعات، يمكن أن يكون بلا احتفالات وبلا أعياد، أو تصور مرحلة تاريخية ما،يغيب فيه فعل الاحتفال ويختفي فيها المحتفلون والمعيدون، فكذلك، فإنه لا يمكن تصور وجود يوم من الأيام، في زمن من الأزمان، يمكن أن يكون خاليا من للاحتفالية ومن العيدية، ومن التلاقي الاجتماعي، ومن (التعبير الحر للإنسان الحر في المجتمع الحر)
ويؤكد الاحتفالي على أن مستقبل التيار الاحتفالي، مغربيا وعربيا، والذي هو ظل وصدى النزعة الاحتفالية لدى الإنسان في كل مكان وزمان، مرتبط بوجود الإنسان، وليس أي شيء آخر، كما يؤكد هذا الاحتفالي على أن مستقبل هذه الاحتفالية ـ بكل محمولاتها الفكرية والجمالية والأخلاقية ـ لا تصنعه النوايا الحسنة والمتفائلة وحدها، ولعل هذا هو ما جعله يقول، بخصوص هذا المستقبل الممكن والمحتمل الوجود ( ليس من مهامي ( معرفة الآتي) فما أنا إلا مبدع ومنظر، ولست ساحرا ولا عرافا، إنني أحمل تصوراتي وأدواتي ومواقفي وأمشي بها، أو تمشي بي، إنني أعرف شيئا واحدا موحدا، وهو أنه لا شيء ساكن وجامد، ولذلك فقد حاولت دائما ـ وما أزال ـ حاولت أن أمشي في نفس اتجاه التاريخ، وألا أسبح ضد تيار الحقائق الظاهرة والخفية، والكائنة والممكنة) (24)
الاحتفال …المرآة وما وراء المرآة
والأصل في هذا الاحتفال أنه مرآة، وأن دور هذه المرآة هو أن تعكس حياة الناس الجوانية والرمزية، ليس كما هي هذه اله الحياة في الواقع، ولكن كما هي الحقيقة البعيدة أو الغائبة أو المغيبة أو المصادرة أو المؤجلة، ومهمة هذه المرآة هو أن تترجم الوقائع الواقعية والرمزية إلى لغات مادية محسوسة، وأن تقدمها في شكل أجساد حية متحركة، وفي شكل غناء ورقص وشعر ونثر وأضواء وظلال وألوان وأصباغ وأقنعة وشموع وقناديل (والمطلوب من هذه المرآة أن تكون صادقة، وأن تكون صادمة، وأن تكون فضولية، وأن تكون ساخرة، وأن تكون مشاغبة ومشاكسة ومستفزة، وأن تكون مسطحة مرة، وأن تكون محدبة مرة أخرى، وأن تكون مقعرة أحيانا، وأن تكون مخادعة وماكرة في أغلب الحالات) (25)
والذهاب إلى الاحتفال يبدأ دائما من مساءلة المرآة، والفرد في حياته اليومية يستعين بهذه المرآة حتى يطمئن على صورته، وكذلك الأمر بالنسبة للمجتمعات، فهي مطالبة بأن ترى وجهها الحقيقي في مرآة الحقيقة، وهل هناك مرآة أصدق من مرآة المسرح؟
وبالنسبة لهذا هذا المسرح المرآة، فإنه لا يصنع الوقائع في الواقع، تماما كما هي موجودة في هذه الوقائع، في جزئياتها وتفاصيلها، ولكنه فقط يعكسها، أو يعيد إنتاجها، بشكل كاريكاتوري ساخر، أو بشكل رمزي، أو بشكل سوريالي، وهذه المهمة ليست سهلة في مجتمعات غير متسامحة مع هذه العين المسرحية الفضولية، ولهذا نجد بعض النقاد يعتبرون أن (عودة ) المسرحيين إلى التراث وإلى التاريخ وإلى القناع الأسطوري هو نوع من التقية، في حين أنه ـ وفي أغلب الحالات ـ قد يكون مجرد استعارة فقط، وهل المسرح إلا هذه الاستعارات التي يعبر من خلالها المسرحي بالصوت الصورة والحركة، هروبا من الخطابية ومن التقريرية ومن الخطاب المباشر، والذي لا يستقيم مع سحرية الفن ولا مع غرائبية صوره ومشاهده وحالاته وشخصياته، لأن الفن ليس هو الواقع، ولكنه ما فوق الواقع أو هو ما خلف الواقع وما بعد الوقائع، هذا المسرح المرآة، لا يصنع الوقائع في الواقع، تماما كما هي موجودة في هذه الوقائع، في جزئياتها وتفاصيلها، ولكنه فقط يعكسها، أو يعيد إنتاجها، بشكل كاريكاتوري ساخر، أو بشكل رمزي، أو بشكل سوريالي، وهذه المهمة ليست سهلة في مجتمعات غير متسامحة مع هذه العين المسرحية الفضولية، ولهذا نجد بعض النقاد يعتبرون أن (عودة ) المسرحيين إلى التراث وإلى التاريخ وإلى القناع الأسطوري هو نوع من التقية، في حين أنه ـ وفي أغلب الحالات ـ قد يكون مجرد استعارة فقط، وهل المسرح إلا هذه الاستعارات التي يعبر من خلالها المسرحي بالصوت الصورة والحركة، هروبا من الخطابية ومن التقريرية ومن الخطاب المباشر، والذي لا يستقيم مع سحرية الفن ولا مع غرائبية صوره ومشاهده وحالاته وشخصياته، لأن الفن ليس هو الواقع، ولكنه ما فوق الواقع أو هو ما خلف الواقع وما بعد الوقائع) (26)
وفي احتفالية ( الناس والحجارة) والتي هي صرخة ضد العزل والعزلة، وضد السجن والمنفى، يقول ذلك السجين الوجودي، والذي لا يحمل اسما، يقول شخصيته الوهمية التي أوجدها خياله، والتي أعطاها اسم قردل، يقول له
( أنظر حولك يا قردل، هل ترى شيئا؟ مطلقا لا شيء ، لأن ما تعودنا أن نراه لا يمكن أن نراه العين لا ترى إلا الجديد، ولا جديد في هذا القبر المعتم، لا شيء هنا يدهش، ولا شيء يثير، هذا سريري، عفوا، سريرنا، وذلك هو حبل الغسيل، وقد حملناه المسكين أوساخنا، وتلك هي الجدران التي تخنقنا لحد الموت، كل شيء في هذا السجن بلا لون يا صاحبي، وبلا مذاق، وبلا ترتيب، وبلا هندسة.. لا شيء يغري بالحياة في هذا القبح يا قردل، ولا شيء يحرض على الفرح، فلا احتفال هنا ولا عيد، والأشياء كلها عادية.. عادية لحد الإحساس بالغثيان… كل أعمارنا تتشابه يا قردل، نعم، إلا أعمار السادة السعداء، ,وأين هم السعداء؟ وكل اللحظات تتشابه أيضا، إلا اللحظات السعيدة، وكل الأيام تتشابه، إلا أيام العيد، وما أشد شوقي وعشقي ليوم العيد.. دلوني عليه وأنا أطير إليه بأجنحة الخيال..) (27)
المسرح والإنسان المدني والديمقراطية
وحضور هذه المرآة، في حياة الأفراد والمجمعات وفي الفنون، له شروطه الموضوعية بكل تأكيد، وهي فنون تحتاج إلى فضاء متسامح، وتحتاج إلى مدينة مدنية مفتوحة، وليس إلى مخيمات عسكرية مغلقة، وتحتاج إلى مناخ من الحرية ومن العقلانية، وتحتاج إلى جمال مادي ورمزي يمكن أن تعكسه المرآة، وفي مملكة تيمور الأعرج ـ في مسرحية ( قراقوش الكبير ) كانت المرآة ممنوعة، لأن الحاكم فيها قبيح وأعرج، إلى أن نطق مساعد الحلاق بالحقيقة
تــيــمور قراقوش أين راحت مرآتك اللعينة؟
قراقوش أية مرآة يا مولانا؟
تـيـمـور تلك التي لا تخجل ولا تستحي، والتي قالت في حق عظمتنا وجلالنا ما لا ينبغي
أن يقال
قراقوش آه، لقد كسرتها يا مولاي ودمرتها تدميرا، جزاء لها على فضولها وقلة
حيائها، ولقد دفنت شظاياها في المقابر المنسية، وتلك صفحة سيئة في كتاب حياتي، ولقد
طويتها ثم مزقها ثم أوقدت النار وأحرقتها وقلت لها :اذهبي إلى الجحيم لا ردك الله.. ولقد
هداني ربي لمهنة لا مرآة فيها، وأصبحت أنا بعونه مفكرا كبيرا، وأصبح هذا الولد الصغير
مفكرا صغيرا.. ) (28)
ولقد نزامن في تاريخ شعوب العربية (الحاجة إلى دمقرطة المسرحية والمسرح مع دمقرطة المجتمع، ولقد تولد لدى المسرحيين الرواد القناعة التالية، وهي أن نجاح أية مسرحية على المسرح، يبدأ أساسا من التوزيع العادل للأدوار، وأن يكون كل ممثل حيث ينبغي أن يكون، وهذا نفس ما يمكن أن ينطبق على المجتمع أيضا، والذي يحتاج إلى عدالة اجتماعية للأدوار وللثروات وللمواقع أيضا، وأن يكون كل مسئول حيث ينبغي أن يكون) (29)
لقد عاش بعض النقد المسرحي العربي، من حيث يدري أو لا يدري، وهو يدعو إلى التحكم والاستبداد، وذلك من خلال ترويجه لما كان يسميه دكتاتورية المؤلف أولا، وإلى دكتاتورية المخرج ثانيا، ووصولا إلى دكتاتورية السينوغراف ثالثا.
(وهذا المسرح، قد كان دائما، بالنسبة لكل الناس، وفي جميع الحقب التاريخية، مدرسة شعبية مفتوحة على كل الناس، ومفتوحة على كل قضايا الناس، ولقد علمهم فقه الحياة، وعلمهم فنون العيش قبل أي شيء آخر، وعلمهم أن يفكروا بالصورة وبالحركة، وأن يكون تفكيرهم مجسدا في أجساد حية، وأن يكون مشخصا ومشخصنا في شخصيات من الواقع ومن التاريخ ومن الحكاية ومن الخرافة ومن الأسطورة ومن الأمثولة أيضا، وعلمهم كيف يكون تفكيرهم واقعيا وهادفا، وأن يتم بصوت مرتفع، وأن يكون تفكيرا مشتركا ومقتسما، وأن يكون في الأماكن العامة المشتركة، والتي تسمى مسارح، وأن يكون لكل مسرحية دلالة ومعنى ومغزى، وأن يكون لها خطاب فكري وسياسي واجتماعي وأخلاقي، وأن يكون هذا الخطاب مقنعا وممتعا في نفس الآن) (30)
وبحسب هذا الاحتفالي دائما، فإننا ( نعيش اليوم نظاما عالميا جديدا، غير ذلك العالم الاستعماري القديم، وندخل عالم الصورة والتواصل عن بعد من أبوابه الواسعة والضيقة، ونجد أنفسنا في قرن جديد، هو القرن الحادي والعشرين، وتصبح الألفية الثانية من الماضي، ونجدها بكل أسمائها ووقائعها وصداماتها وحروبها الاستعمارية والتحررية في ذمة التاريخ، ونجد أن التاريخ اليوم قد أصبح يتغير بشكل أعنف وأسرع، وأن نحس في سرعته شيئا كثيرا من القسوة والعنف ومن الغرابة والإدهاش، ومن الجديد الصادم والمستفز، ويجد الإنسان نفسه اليوم مطالبا بأن يتغير، وأن يتجدد، وأن يسير بسرعة أكبر، وأن يعرف أكثر، وأن يكون سيره بإيقاع أعنف، وأن يعي المتغيرات بوعي أعمق، وأن يبصر العالم بأكثر من عين واحدة، وأن يراه برؤية أصدق، وأن يغير فنونه وآدابه وصناعاته القديمة، وذلك حتى يكون في سيره الاجتماعي والفكري والسياسي متجها باتجاه المستقبل، وأن يكون هذا الإنسان ( الجديد) في مستوى هذا العصر الجديد، وأن يجيب على أسئلة هذا العصر، والتي هي أسئلة دقيقة ومركبة، وأن يكون في مستوى تحدياته، وأن يكون بنفس قامة إكراهاته العلمية والفكرية والجمالية المتعددة والمتنوعة، وأن يكون فنانا عالما في عصر الفكر والعلم، وأن يكون في اشتغاله المسرحي تجريبيا ميدانيا في عصر التجريب ) (31)
إن هذا المسرح، بالنسبة للاحتفالي هو ( برلمان الناس في المدينة، وهو مدرسة لتعلم أصول الديمقراطية، ولممارستها أيضا، وهذه الديمقراطية ليست مجرد مؤسسات برلمانية فقط، ولكنها قناعة فكرية قبل كل شيء، وهي سلوك ومعاملات أيضا، وهي حوار وخطابات كذلك، وبهذا يكون من الطبيعي أن نبدأ بالتربية الديمقراطية أولا، سواء في البيت أو الروضة أو في المدرسة أو في الوظيفة أو في الشارع العام) (32)
الاحتفال المسرحي: الصورة وروح الصورة
يقول الاحتفالي: (نحن اليوم نحيا في عالم ضاقت فيه المسافات، عالم أصبح يتغير بسرعة مذهلة، وأصبحت الصناعة المسرحية مطالبة بأن تتغير هي أيضا، حتى تطرح أحدث الأسئلة، وتهتدي إلى أصدق الأجوبة) (33)
وهذا الواقع اليوم، في قوته وعنفه وفي حدته وفي سرعته وغرابته، لا يرحم أحدا من الناس، خصوصا المتخلفين منهم، وهو لا يعرف، ولا يعترف بذلك المثل العربي القديم، والذي يقول ( سيروا بسير ضعفائكم ) لأن الأمر يتعلق بسباق غير معلن، سباق نحو الأسوأ ونحو الأقبح ونحو الأتفه ونحو الأشياء الأكثر حمقا وجنونا، وذلك بدل أن يكون سباقا عاقلا نحو الأجمل والأكمل والأصدق ونحو الأكثر عقلانية ومنطقية
إن منطق هذا الواقع اليوم، هو أساسا منطق مادي وحسي ونفعي وبراغماتي وعبثي وفوضوي، وهو يحتكم إلى سلطة السوق، أي إلى العلاقة بين العرض والطلب، والتي نقوم على معيار البحث عن الأسهل وعن الأقرب وعن الأرخص وعن الأتفه وعن لفنون التي لا تقول شيئا، ولا توحي بشي، ولا توصي بشيء، ولا تبشر بشيء من الأشياء، وهو بهذا غر منطق الإبداع الصادق، وذلك في الزمن الصادق، وفي الموقف الصادق، وفي الإبداع الصادق، والذي يتطلب زواج أجساد ونفوس وعقول وأرواح قبل كل شيء، ويتطلب زواج أفكار بأفكار، زواج شرعي يمكن أن ينتج عنه حمل شرعي، وهذا التلاقح يتطلب زمنا ما، وقد يطول أو يقصر، ويتطلب وجعا، ويتطلب مخاضا، ويتطلب وضعا طبيعيا في ظروف طبيعية، وليس وضعا قيصريا في سياقات متصنعو ومفبركة، ويتطلب أن تختمر الأفكار في العقول والنفوس والأرواح أولا، وأن تتضح الصور في العيون الظاهرة والخفية ثانيا، قبل أن تخرج للناس في شكل إبداعات متكاملة، شكل ومضموما
وهذا العالم اليوم ـ كما يقول عنه الاحتفالي ـ هو (عالم لا أحد يدري إلى أين يتجه، وهو يتغير بسرعة مرعبة، والأيام فيه تأتي بالمفاجآت، وأصبح المحال فيه ممكنا، والبعيد قريبا، والتافه سيدا، والمجرم مشهورا) (34)
ولقد حرصت الاحتفالية على أن تعرف عالمها أولا، وأن تحدد موقعها في خرائطه ثانيا، وأن تتعامل معه ـ ثالثا ـ تعاملا احتفاليا، وأن تستحضر روح الحقيقة، قبل استحضار منطق الواقع وسلطة الوقائع، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي
(نعيش اليوم في ظل نظام عالمي ظاهره الرفاهية وباطنه العذاب، نظام يقوم على التحكم الخفي، كما يقوم على الشكلانية التي تتجلى في جماليات الصورة، ونعرف أن من يمتلك الإعلام والسينما والإشهار هو من يمتلك التحكم في الرأي العام وفي الإحساس العام وفي الذوق العام) (35)
وبهذا تكون السينما، والتي هي صناعة الصورة، غنية بآلياتها وبتقنياتها وبحيلها، ويكون المسرح، في المقابل، هو فن الحياة، وهو فقه الوجود، وهو علم البنيات والعلاقات المدنية، وهو فكر الإنسان والإنسانية، وفرق كبير جدا بين صناعة تعتقل الحياة والأحياء في صور، وبين فن يقوم على الوقائع الحية وعلى التلاقي الحي
في السينما، نشاهد صورا موجودة في علب، ونراها منعكسة أمامنا، في حين أن جهاز البث موجود خلفنا، في حين أن كل ما في المسرح موجود أمامنا ومعنا، وهو ينتمي إلى نفس زماننا وإلى نفس لحظتنا الاحتفالية
هو زمن آخر إذن، زمن يتطلب فهمه أولا، ويتطلب تحديد دورنا فيه ثانيا ( ولهذا فإن مهام ومسئوليات المسرحي اليوم، هي أكبر وأخطر مما كانت عليه في العهد الاستعماري، أو في عهد الحرب الباردة، وأن الأمر ـ وبخلاف ما قد يفهم بعض المسرحيين التجريبيين ـ هو أخطر من أن يكون متعلقا بتغيير نظام مسرجي بنظام آخر، لأن المطلوب هو تغيير نظام وجودي قديم بنظام وجودي جديد ومتجدد) (36)
وأهم وأخطر ما يميز هذا النظام، هو أنه نظام غير إنساني وغير حيوي وغير مدني وغير احتفالي، وهو نظام خطير ( له عسس وحرس، وله آليات وأدوات، وله هيئات ومؤسسات، له قواعد ومنهجيات، وله مال ورجال، وله مراكز قوى ولوبيات في كل مكان، وكل هذا من أجل ضبط الحياة والأحياء) (37)
بيانات بدرجة رسائل إلى العالم
إن ما نتقدم به اليوم، للحقيقة والتاريخ، هو أساسا بيانات احتفالية أخرى، وهو إضافة فكرية وجمالية إلى كل البيانات التي صدرت من قبل، والتي ظلت تصدر على امتداد عقود طويلة من عمر قرنين ومن عمر ألفيتين، وهي بيانات كتبت نفسها بنفسها في لحظة صحو فكري، وكتبتها لحظتها التاريخية الجديدة، وساقتها سياقات ذاتية وموضوعية أخرى كثيرة جدا، وهي اليوم ـ كباقي كل البيانات الاحتفالية السابقة واللاحقة ـ تحتفي بالإنسان والإنسانية، وتحتفي بالحياة والحيوية، وتحتفي بالمدينة والمدنية، وتحتفي بعبقرية الإنسان المبدع والخلاق، وتحتفي بالتأسيس وإعادة التأسيس، وهي في عمرها الجديد مازلت تؤكد على أن هذا الإنسان أساسا رؤية وموقف، أو أنه حزمة مواقف، وعلى أن هذه الاحتفالية هي موقفها المبدئي الثابت، وليس هو موقعها المتغير والمتجدد على خرائط الواقع، أو على رقعته المجتمعية، والتي قد تشبه رقعة الشطرنج، قليلا أو كثيرا، وهي بهذا بيانات للتبيين المبين، وهي في جوهرها أفكار واختيارات، وهي إشارات وتصورات، وهي اقتراحات وإيحاءات، وهي رموز وإيماءات، ودورها في الإبداع الاحتفالي وفي الفكر الاحتفالي هو أن تدل على الفرح، وأن تحرض على الفرح، وأن تحتفي بالفرح، وبصناع الفرح، وهي في هذه البيانات تؤكد دائما على الحق في الفرح، وتحتفي بالحرية ورموزها، وتحتفي بالأحرار في كل زمان ومكان، وتحتفي بالاستقلالية في التفكير والتدبير، وتحتفي بالاجتهاد الأدبي والفني الصادق، وبالاجتهاد والمجتهدين أيضا، وتحتفي بالإبداع والمبدعين، وبالفكر وبالمفكرين الصادقين، وهي تحتفي بالمعرفة وبالحكمة وبعشاق الحكمة، وتحتفي بالأشياء وبالأفعال وبالحالات وبكل المواقف الكائنة والممكنة، والتي تكون حقيقية وصادقة وشفافة دائما، والتي لا يخالف ظاهرها باطنها، وتؤكد أيضا على أن الوجود هو وحده الموجود في هذا الوجود، وعلى أن العدم ليس له وجود، إلا في نفوس وعقول وأرواح العدميين والظلاميين والعبثيين والانهزاميين والاتباعيين والهتافين المحترفين، والعاملين أيضا لحساب الفراغ والخواء، وتؤكد هذه البيانات االيوم ـ مثلما أكدت بالأمس ـ على فعل الحضور، وعلى شرف الحضور، إيمانا منها بأن الغياب خيانة وجودية، وعلى أن تغييب من يفترض فيهم الحضور، الآن هنا، معنا، فإنه لا يمكن أن يكون إلا جريمة بشعة، جريمة ضد الإنسان وضد الإنسانية وضد الأخلاق المدنية، وضد الحق في الحضور وفي التعدد والاختلاف، وإن مثل هذا الفعل العدواني ـ في حال حدوثه ــ لا يمكن أن يكون إلا قتلا أو نوعا من أنواع القتل والاغتيال
وإن هذه البيانات، وقبل أن تقول وتكتب شيئا جديدا، وقبل أن تكلم الناس بلغة حية جديدة، وقبل أن تبث في جسد هذا المسرح المغربي والعربي دماء جديدة، قبل كل هذا، فقد كانت فعلا جديدا، وكانت رجة وهزة، وكانت ثورة على كثير من البديهيات والمسلمات، وهذه الأفكار لم تأت من المريخ ولا من زحل،، وهي في حقيقتها نبت هذه الأرض، وهي عطاء هذه الأزمان الجديدة، وهي أيضا، فيض أرواح إنسانية صادقة، وهي فيض نفوس حية،ولعل هذا هو ما جعل الاحتفالي يقول:
(لقد شكل ذلك البيان ( الأول) صدمة قوية وعنيفة للمسرحيين والنقاد والباحثين المغاربة والعرب، ولقد كانت صدمتهم مركبة، وكانت الصدمة الأولى أنهم قد وجدوا أنفسهم أمام تقليدين جديدين وغير معهودين في كل المسرح المغربي والعربي، وكان التقليد الأول هو إصدار البيانات المؤسسة للتيارات والمدارس المسرحية، أما التقليد الثاني فهو تأسيس الجماعات المسرحية، والحاملة لمشاريع مسرحية كبرى، أما الصدمة الثانية فقد تمثلت في كون هذه الجماعة تضمنت أسماء كبيرة ووازنة في المسرح العربي الحديث، أسماء لمسرحيين بتاريخ مسرحي عريض جدا) (38)
وإن هذه البيانات، وباعتبارها حياة الناس وحياة الأفكار الحية، فإن أصدق ما يميزها هو أنها تحتفي بالمخاطرة العالمة والفاهمة والشعرية والسحرية دائما، سواء في الفكر أو في العلم أو في الفن أو في الحياة اليومية، وهي تؤكد على الحقيقة الجديدة القديمة التالية، وهي أنه لا حياة حقيقية إلا مع المخاطرة، وذلك بحثا عن الأجمل والأكمل وعن الأنبل من الحالات والأفكار والمواقف والعلاقات والمؤسسات
وقدر هذه البيانات الاحتفالية أيضا، هو أن تكون حاضرة في كل منعطف تاريخي، وعند كل انقلاب فكري أو علمي أو صناعي، وأن تحتفي ب ( النحن) الجماعية، وذلك في مقابل (الأنا) الفردية، وفي هذه (النحن) تتكامل الذوات، وتتحاور، وتتشارك، وتتقاطع، وتتقاسم أجمل الأشياء وأصدق الحالات، مؤكدة على أن الفرح الصادق والكبير لا يمكن أن تحمله غير النفوس الكبرى وغير العقول الكبرى وغير الأرواح الكبرى، وفي الموعد الاحتفالي دائما، وفي التلاقي الاحتفالي أيضا، لا يمكم أن تحضر إلا هذه ( النحدن) الجماعية، وأن يصبح لتلك لأنانية البغيضة ما يقابلها وما يخالفها، والتي هي ( النحنية) السعيدة
وإن هذه البيانات الاحتفالية، في مبناها ومعناها، وفي ظاهرها ومضمرها، قد (انكتبت) بنفس الروح وبنفس الرؤية التي (انكتبت) بها كل الإبداعات المسرحية الاحتفالية، والتي (انكتبت) بها كل الكتب النظرية الاحتفالية أيضا، لقد ( انكتبت) ( بنفس ملحمي، وبوعي موسوعي، وبألوان وظلال احتفالية، وبحس نقدي، وبنزعة ثورية، وبزي حداثي، وبانحياز كوني، وبموقف جدلي، وبرؤية استشرافية واستباقية، وبلمسة سحرية، وبإشراقات صوفية، كما أنها كتابة بطموح تأسيسي، وهي تسعى لأن تؤسس جنسا جديدا من الكتابة، وان توجد تقليدا يخرج عن كل التقاليد المألوفة والمعروفة، وأن توجد منهجا لا يستقيم مع أي منهج) (39)
وفي معنى هذه الاحتفالية، والموجود ضوءها وظلها وصوتها وصداها في هذه البيانات المؤسسة، يقول الاحتفالي، بخصوص علاقته بالاحتفالية فكرا وعلما وفنا وسلوكا أخلاقيا، يقول (واقتنعت بالاحتفالية فلسفة ومنهجا، وارتضيها فكرا وأخلاقا، وقلت: هي طريق قبل أن كون طريقة، وهي تأسيس قبل أن تكون مؤسسة، وهي رحلة في الوجود وليس محطة فيها ) (40)
وما يميز هذا البيان الاحتفالي، بكل أرقامه وعناوينه المتعددة، هو أنه أساسا رسالة، وأنه قراءة لروح الحياة والأحياء، قبل أن يكون مجرد كتابة، ولقد شبهت الاحتفالية، في بداياتها التأسيسية الأولى رسائلها برسائل إخوان الصفا، وبخصوص هذه البيانات ـ الرسائل إلى العالم، يقول الاحتفالي (والمهم اليوم، أن البيان مجرد رسالة، إن كانت قد فهمت، فذلك ما نريد، وإذا لم تفهم، فإننا سنواصل بعث الرسائل لكل من يهمه الأمر) (41)
وقبل أن يفهم العالم رسائل هذه الاحتفالية، فهي ـ في المقابل ـ تصر على أن تعرف هي هذا العالم أولا، وعلى أن تعرف ذاتها وموقعها فيه، وأن تجدد لغاتها ومعاجمها، وأن توجد لكل مقام مقال، وأن تظهر للناس، في أي احتفال جديد، بلباس عيدي جديد، وأن تؤسس لكل زمن جديد مسرحه الاحتفالي الجديد، وأن يقدم هذا المسرح نفسه للناس من خلال الإبداع الجمالي، وأيضا من خلال البيانات الفكرية، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي ( ومادامت هذه الاحتفالية تواصل إنتاج الأفكار الجديدة، ومادامت تبدع المسرحيات الجديدة، فإنها بالتأكيد ستظل تواصل نشر البيانات الجديدة) (42)
تمارين الأبدان وتمارين الأرواح:
وبحسب الاحتفالي، فإنه لا وجود في هذه الاحتفالية إلا لفعل واحد أوحد، والذي هو فعل يتكرر ويتجدد إلى ما لا نهاية؛ هكذا تحدث الاحتفالي، وما يميز هذا الفعل دائما، إضافة إلى صدقه ومصداقيته، أنه لا يقبل أن يلحقه القدم، أو أن يتخلف عن مسايرة الزمن في سرعته وإيقاعه، أو أن يمشي في غير وجهته، وهو بهذا فعل جديد ومجدد ومتجدد دائما، ولهذا الفعل الوجودي اسم بكل تأكيد، والذي هو فعل الحركة والتحرك، والذي له لدى الاحتفاليين معنى التمارين الرياضية، معتبرين أن الحياة، بكل أعمارها مجرد تمارين فقط، وأن أصدق وأجمل وأنبل كل التمارين هي تمارين العقل وتمارين النفس وتمارين الوجدان وتمارين الروح وتمارين الخيال، وبغير هذه التمارين اليومية تتحجر العقول، وتتكلس النفوس، وتفسد المياه الراكدة في نهر الحياة، وهذا الذي نسميه المسرح، ماذا يمكن أن يكون ـ في معناه الحقيقي ـ سوى أنه ( تمارين على الحياة) (43)
إننا في هذا المسرح الاحتفالي الحي، نعيد نفس الحركات الموجودة في الواقع، ليس تقليدا له ولكن تحديا لوقائعه، وليس حبا في المظاهر والظواهر الكائنة في هذا الواقع،، ولكن حبا في الممكن، وحبا في المستحيل، وعشقا في المتخيل، وفي هذا المسرح نتمرن من أجل أن ننمي أجسادنا، ومن أجل أن نحرر أرواحنا، ومن أجل أن نعرف أنفسنا بشكل أصدق، ومن أجل اكتشاف الطاقات الإيجابية في داخلنا، ومن أجل أن نكون إنسانيين بشكل حقيقي، ومن أجل أن نكون مدنيين في المدن الجديدة، ومن أجل أن نتفاهم، وأن نتواصل بلغات المسرح الحية، وأن يتم كل ذلك بشكل أشمل وأكمل، ويبقى أن الأصل في هذا المسرح أيضا، هو أنه احتفال الحياة واحتفال الأحياء، وهذا الاحتفال هو (تمرين على الفرح ، والفرح تمرين على السعادة الممكنة) (44)
وتؤمن الاحتفالية بأنه ( بضدنا توجد الأشياء) أو تعرف الأشياء، وتولد كثير من المعاني الجميلة والنبيلة أيضا، وعليه، فقد كانت كل الأشياء، وكانت كل الحالات، وكانت كل المقامات تحمل مضاعفها ونقيضها ومكملها فيها، ويذلك، فإنه من الممكن أن نجد الحكمة في أقصى درجات الجنون، وأن نجد الفرح في أقصى درجات الحزن، وأن نجد اليقين في أقصى درجات الشك، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي:
( كن متفائلا لحد التشاؤم وكن متشائما لحد التفاؤل
واضحك لحد البكاء، وابك لحد الضحك
وادفع بكل الحالات إلى أقصاها وأعلاها
وفي أقصى أي شيء ستجد ضده
وفي أقصى أية حالة لا يمكن أن تجد إلا ما يخالفها ويناقضه) 45
اللعب الاحتفالي في الملاعب المفتوحة:
ونسجل اليوم، بكل فرح وفخر واعتزاز، انتصار النزعة الاحتفالية في العالم، وذلك على حساب النزعة المأتمية وعلى حساب الرؤية العبثية وعلى حساب الرؤية الفوضوية، ولقد تكشفت هذه الحقيقة في حمى المونديال الكروي في قطر، والذي هو ـ في ظاهره ـ مجرد مباريات في كرة القدم، ولكنه ـ في حقيقته ـ عيد الإنسان والإنسان، وهو مناسبة للتلاقي، وهو فضاء للارتجال الفني، وهو واجهة عالمية (للتعبير الحر للإنسان الحر في المجتمع الإنساني الحر) وهو بهذا سوق للإبداع، وهل هناك إبداع بدون حرية، وبدون أجساد وأرواح حرة؟ وهو في معناه الحقيقي فضاء مفتوح للعبقرية الإنسانية الخلاقة
ومن حقنا أن نسجل اليوم، بكل أسف، أن هذه الاحتفالية ـ في شقها المسرحي ـ والتي دعونا لها منذ سبعة وأربعين سنة، قد فهمها الرياضيون في العالم، ولم يفهمها المسرحيون العرب، مع أن روحها المسرح، وأن أصلها ومنبتها المسرح، ووجهتها المسرح، فالكل اليوم يتحدث عن احتفاليات الملاعب، والتي يصنعها اللاعبون في الفضاء المفتوح، وذلك بمساهمة و مشاركة اللاعب رقم 12 والذي هو الجمهور، ولقد ظلت الاحتفالية ـ وعلى امتداد عقود طويلة ـ تؤكد على أن حقيقة المسرح تكمن في أنه رياضة فكرية ووجدانية ونفسية روحية قبل كل شيء، وأنه أساسا احتفال شعبي مفتوح على الأرض والسماء وعلى العمق الإنساني الخفي، وأنه عيد إنساني كوني بلغات جسدية متعددة ومتنوعة ومتجددة، وعليه، ولأن هذا العيد حياة وحيوية، ولأنه التعبير الصادق عن نهر هذه الحياة، فإنه لا أحد من حقه أن يحضر هذا العيد، من أجل أن يتفرج فقط، ولكن من أجل أن يحيا، وأن يفرح، وأن يعبر عن هذا الفرح، بكل اللغات الجسدية الكائنة والممكنة، والظاهرة والخفية، وأيضا، بكل الأشياء التي يمكن أن يستعين بها المحتفلون والمعيدون، وذلك من مثل الأعلام والطبول والمزامير، ومن مثل الأقنعة والأزياء والألوان والشهب الاصطناعية، وفي هذا المونديال أيضا، تأكد الجميع من أننا اليوم، في هذا الكوكب الذي يسمى الأرض، أننا بحاجة أكثر إلى أن نحتفل، وأن نعيد، وبأننا نعاني ـ عربيا وأفريقيا بشكل خاص ـ من نقص حاد وكبير في (مادة) الفرح، وفي منسوب لفرح، وبأننا بحاجة إلى انتصار ينسينا هزائمنا السياسية والمعيشية، وذلك على امتداد عقود طويلة من الزمن، ولقد سعت الناصرية إلى إبداع حس جماعي قومي من خلال الرهان على إسقاط الملكيات وإقامة ما يشبه الجمهوريات، وأيضا من خلال الانقلابات العسكرية ومن خلال السلاح، ومن خلال القتل والاغتيال، وكذلك فعل البعث العراقي والسوري، وكذلك فعلت جماهيرية القذافي العدمية والعبثية، ولقد نجحت مباريات المغرب وانتصاراته في كرة القدم، أن توحد العرب، وأن تعيد الحس الجماعي إلى الحياة، وأن تعطي الناس مبررا للفرح الصادق، بعيدا عن الشعارات الكبيرة والفارغة والمضللة
وعلاقة بما أهدته الكرة المغربيةـ من رسائل جميلة ونبيلة للعالم، يقول الكاتب والمنظر المسرحي الاحتفالي د. محمد الوادي ( لسنين ونحن نعيش الخيبة تلو الأخرى على جميع الأصعدة (في السياسة والثقافة والتعليم والصحة.. وأيضا في الرياضة) حتى كدنا أن نسلم بالأمر الواقع، ونؤمن أن جواد التفاهة والتافهين وأعداء النجاح والتميز والتفرد والنصابين واللصوص وتجار السياسة والدين.. هو الجواد الرابح، وبالتالي لا أمل في ثورة ثقافة وتعليمية، وان الصحة في بلدنا ستظل مريضة، وان الشاطر هو الذي يعرف من أين تؤكل الكتف … وأن المناصب العليا هي فقط للذين فصلت على مقاسهم ) (46)
إن السياسة العربية أعطتنا الهزائم، وجعلتنا نفقد الثقة في أنفسنا، وأن نعيش على هامش التاريخ، ولقد أكدت الاحتفالية أن أسوأ كل الهزائم، هي تلك التي تأتينا من أنفسنا ومن داخلنا، والتي يمارسها الانهزاميون على أنفسهم وعلى أوطانهم وعلى ثقافاتهم وعلى لغاتهم وعلى فنونهم، والذين يتنكرون لحقيقتهم ولهويتهم ولذاكرتهم ولتاريخهم، والذين لا يعرفون مكامن القوة فيهم، وبذلك، فقد حرضت الاحتفالية دائما على معرفة الذات أولا، قبل التعريف بها، ودعت إلى اكتشاف الطاقات الخفية في النفوس والأرواح، كما دعت إلى إضاءة الجوانب المظلمة في كثير من العقول، وإلى تحريك الطاقات والملكات المعطلة في الأجساد والنفوس والأرواح الحية،، ولعل هذا هو ما يفسر اهتمام الاحتفالية بالحرية وبفعل التحرر، وبالانحياز إلى الاحتفال الحر، وذلك باعتبار أنه لحظة صادقة لإرادة لتحرر من الروتين اليومي، والذي يكرر نفس الفعل القديم، ولا يؤسس أي فعل جديد، وانطلاقا من هذا الاحتفال الاجتماعي الحر والتلقائي والعفوي، فقد دعت الاحتفالية إلى تحرير المسرح، مغربيا وعربيا وكونيا، وأكدت على فعل التحرر بالمسرح الحر، ولقد آمنت دائما بأن الفرح ممكن، وبأن العيد هو فعلا يوم من الأيام، ولكنه سيد وسلطان كل الأيام، معتبرة بأن هذا اليوم العيدي والاحتفالي هو تتويج لكل أيام العمل السابقة، وهو أجر وجزاء المجدين والمجتهدين والمناضلين، وبذلك، فإنه ليس من حق الكسالى والمنهزمين والعدميين والظلاميين والغائبين والمنسحبين والمنبطحين والمشككين والهتافين أن يعيدوا، وأن يحتفلوا، وبمناسبة احتفاليات المونديال الكروي في قطر، فرحت كل الأمة العربية، من الماء إلى الماء، وفرحت كل أفريقيا، وكل دول العالم الثالث المستضعفة والمغيبة، لقد فرحت بانتصارات المغرب في الكرة لأنها تعني لها الشيء الكثير، وذلك لأنها استطاعت بهده الانتصارات الرمزية أن تسترجع ثقتها بنفسها، وأن تخرج من غيبوبتها التي طالت واستطالت كثرا، وأصبح بإمكانها أن تستعيد وعيها المصادر، وأن تتحرر من عقدة الرجل الأبيض، وأن تؤمن بأنه، مع الكد والاجتهاد، فإنه لا شيء مستحيل، وبأن الفرح حق، وأن العيد الأكبر قادم لا ريب فيه، ليس في الكرة وحدها، ولكن في المعرفة وفي العلم وفي الصناعة، وفي الفنون، وفي كل مجالات الحياة المختلفة
ولعل أصدق ما في هذه الاحتفالية، هو أنها آمنت بالإنسان، وكانت دائم واثقة من عبقرية الإنسان، وهي التي قات وكتبت وبينت في كل البيانات والإبداعات، بأن الأصل في الوجود، هو الأعلى وهو الأسمى، وهو الأبعد، وهو المبعد، وهو الغائب والمغيّب، وهو الخفي والمضمر، وهو الجواني الخفي، وهو ذلك المتخيل الذي يسحرنا ويدهشنا بسحره، وهو ذاك الحلم الجماعي العجيب، والذي يجذبنا باتجاه الأصدق والأجمل والأكمل والأنبل في الحياة، ونحو الأكثر سحرا ونحو الأكثر إقناعا ونحو الأكثر إمتاعا، ونحو الأكثر إشعاعا والأكثر إدهاشا والأكثر إبهارا، وتؤكد هذه الاحتفالية اليوم ـ تماما كما أكدت بالأمس ـ على الحقيقة الأساسية التالية، وهي أن وجود مسرح بدون احتفالية حية ليس مسرحا حيا، وعلى أن لعبة كرة القدم، بدون احتفالية وعيدية، لا يمكن أن يكون لها أي معنى، ونفس الشيء يمكن أن ينسحب على كل الفنون والآداب وعلى كل الملتقيات الرياضية والفكرية والسياسية، والتي تحتاج كلها إلى ملح العيد وإلى توابله وإلى أصواته وأضوائه وإلى ألوانه وأصباغه وإلى كل محسناته البلاغية المتعددة والمتنوعة
ولقد تأكد للجميع اليوم، من خلال فنون وجنون ما يقع أثناء المباريات، أن ما يجري على هامش المباريات في مدرجات الجمهور لا يقل فنية وإبداعية وجمالية وخطورة، عما يقع وسط الميدان، وهذا هو ما يؤكد أن الجمهور، في الرياضة والفنون معا، ليس رقما زائدا، وليس كما بشريا بلا معنى، هذه الحقيقة أدركها الرياضيون في كل العالم، ولم يدركها المسرحيون العرب، وفاتهم أن يعرفوا أنه بدون مشاركة وبدون اقتسام وبدون تفاعل وبدون حوار وبجون إدهاش واندهاش وبدون طقس احتفالي وبدون مناخ عيدي، تظل اللقاءات والملتقيات والمباريات جامدة وباردة وباهتة وبلا إيقاع وبلا ظلال وبلا طعم ولا مذاق، وهذا ما يجعل الاحتفالية تقول بأن الفن، وهو في درجة الاحتفال والعيد، لا يمكن أن يكون إلا طقسا، وبدون وجود مناخ حقيقي، فإن كثيرا من اللقاءات الرياضية ومن الفنون الأدائية الجماعية تصبح بلا روح وبلا حياة وبلا حيوية وبلا حركية وبلا طاقة وجدانية وروحية محركة
إن الفنون والآداب الاحتفالية الجماعية، هي دائما فعل وانفعال وهي تفاعل وفاعلية، وهي أساسا مشاركة، حسية ورمزية، وإن صناعة المستقبل، في فضاء هذا التاريخ المفتوح، ماذا يمكن أن تكون، سوى أنها حوار وجدل ومشاركة واقتسام أيضا؟ ومن واجب الجميع أن يساهم اليوم في صناعة الآني والآتي معا، وأن يكون الكل فاعلا ومتفاعلا في الحياة اليومية، وأن يكون فاعلا في الفكر والفن والصناعة وفي كل مجالات الحياة، وأن يبتعد ـ بالقدر الذي يستطيع ـ عن المشاهدة الغبية، وعن التفرج عن بعد، أو من فوق، لأن الحياة ليست فرجة منفصلة عنا نحن الأحياء، وليست شريطا سينمائيا مصورا، وليست حكاية، ولا هي خرافة، ولا هي رواية، ولا هي مجرد ملحمة أو أسطورة، وفي الملاعب الرياضية اليوم ـ وغدا وفي كل يوم ـ فإنه لا وجود إلا للمحتفلين والمعيدين والمبدعين والخلاقين، وما يميز جمهور الكرة هو أنه جمهور احتفالي بامتياز، وهو يتماهي في أجساد اللاعبين وفي أرواحهم، وهو يرتدي أقمصتهم، بكل ألوانها وشاراتها وأرقامها، ويحمل أسماءهم أيضا، وهو بهذا يساهم ـ حسيا ووجدانيا ـ في صناعة احتفالية رياضية وجمالية متكاملة، احتفالية فيها الصراخ، وفيها التمثيل، وفيها الرقص، وفيها الكوميديا الضاحكة والساخرة، وفيها التراجيديا الحزينة والباكية، إما حزنا أو فرحا، أو هما معا، وفيها العزف على الطبول، وفيها التصفيق، وفيها الإنشاد والغناء، وفيها الرسم والنحت بالأجساد وعلى الأجساد، وفيها التضرع والدعاء وفيها الخوف والقلق، وفيها الانتظار والتوقع، وفيها هتاف وزعاريد النساء، وفيها الكثير من الفنون ومن الجنون ومن الهذيان الخلاق، وبحسب الشاعر والمفكر صلاح بوسريف فإن الحياد في هذا الاحتفال الكروي غير ممكن، وغير معقول، لأن الاحتفال حياة، ولا يقبل من هذا الإنسان الحي ألا يحيا حياته، وهي في درجة الفرح والبهجة، وعليه، فإنه ( لا أحد يستطيع أن يبقى باردا أو جامدا لا يتحرك، لأن الأمر يتعلق بريح صفصف كانت تجرف كل من في طريقها وتدفع الجميع نحو لحظة لا مثيل لها في تاريخ المسابقات والمنافسات الرياضية ) (47)
والأصل في هذا الاحتفال، سواء أكان في درجة الرياضة البدنية، أو كان في درجة الرياضة الفكرية والوجدانية، أنه ساعة للفرح الصادق والصاعق، وأن هذا الفرح ـ كما يقول صلاح بوسريف ـ هو أنه ( يعاش ولا يقال) وهو ساعة واحدة فقط، ولكنها الساعة التي أن تختزل كل الزمن، وذلك داخل فضاء مكان واحد، يمكن أن يختزل كل الأمكنة، وفي الرؤية الاحتفالية، فإن هذه الحياة مجرد ساعة، وأن العمر ساعة أيضا، وأن التاريخ ساعة، وأن كل الأيام والأعوام ما هي إلا ساعة واحدة فقط، وعن هذه الساعة الوحدة يبحث جمهور المسرح في المسارح، وعنها أيضا يبحث جمهور الكرة في الملاعب الرياضية، وفي هذا المعنى يقول الاحتفالي في احتفالية (الحكواتي الأخير)
(أنا ساعة صدقني، تأتي ثم تمضي، وتدور كما الفلك الدوار، وهي ساعة إذا كنا فيها تضحكنا، كما تضحك أنت الآن، وإذا غادرنا تبكي الآخرين علينا) (48)
وفي هذه الساعة الاحتفالية، المركزة والمكثفة، نعيش زمن المسرحية الحقيقي، ونحيا اللحظة المسرحية الاحتفالية والعيدية، بكل أبعادها ومستوياتها، وبكل درجاتها وظلالها الصادقة الحية، ليس باعتبارها عرضا مسرحيا أو سينمائيا أو رياضيا نتفرج عليه، ولكن باعتبارها حياتنا الحقيقية التي ردت إلينا، والتي ينبغي أن نعيشها بعفوية وتلقائية وحيوية، أي باعتبارها أساسا قضية وجود ومسألة وجود، وباعتبارها أسئلة فكرية جديدة ومتجددة، وباعتبارها مناخا وطقسا، نحيا فيهما وبهما، وباعتبارها حالات ومقامات وجدانية، وباعتبارها مفاجآت ومشاهدات ومعايشات ومبادرات صادقة وناطقة بالحق والحقيقة
وبهذا يمكن أن نقول ـ في ختام هذا البيان الاحتفالي الأول ـ أن الجائحة قد عززت النزعة الاحتفالية، وذلك في تأكيدها على الحق في الحياة، وعلى أن المونديال قد عزز الرؤية الإنسانية والمدنية، وذلك في تأكيده عل الحق في الفرح
الهوامش:
1 ــ ع الكريم برشيد (الرحلة البرشيدية ) إيديسوفت ـ الدار البيضاء
2 ــ ع الكريم برشيد ( غابة الإشارات) مطبعة تريفة ـ أبركان 1999 ــ ص 65
3 ــ نفس المرجع السابق
4 ــ نفس المرجع
5 ــ ع الكريم برشيد (الرحلة البرشيدية ) منشورات إيديسوفت ـ الدار البيضاء ـ ص 73
6 ــ ع الكريم برشيد (الرؤية العيدية في العين الاحتفالية) كتابات على هامش كتاب (الرؤية العيدية بين لاحتفالية والمأتمية) مخطوط
7 ــ نفس المرجع السابق
8 ــ نفس المرجع
9 ــ ع الكريم برشيد (المؤذنون في مالطة ) كتاب الجيب ـ منشورات الزمن ـ الرباط ـ ص 89
10 ــ (الرؤية العيدية في العين الاحتفالية) نفس المرجع السابق
11 ــ الرؤية العيدية.. نفس المرجع السابق
12 ــ (الرحلة البرشيدية) م س
13 ــ ع الكريم برشيد (مقامات بهلوانية) الأعمال الكاملة ـ وزارة الثقافة ـ الرباط
14 ــ ع الكريم برشيد ( الدجال والقيامة ) الهيئة العامة للكتاب ـ القاهرة ـ
15 ــ عبد الرزاق الربيعي ( الحكواتي الأخير عبد الكريم برشيد) المكتبة العربية للنشر والتوزيع ـ القاهرة 2021 ـ ص 118
16 ــ ع الكريم برشيد ( البيانات الجديدة لاحتفالية المتجددة) الهيئة العربية للمسرح ـ الشارقة 2014 ـ ص 140
17 ــ نفس المرجع السابق ـ ص 140
18 ــ ع الكريم برشيد ( الناس والحجارة) مونودراما احتفالية في أحد عشر نفسا ـ إيديسوف ـ الدار البيضاء ـ 2016 ــ ص 6
19 ــ ع الكريم برشيد ( الناس والحجارة) مونودراما احتفالية في أحد عشر نفسا ـ إيديسوفت ـ الدار البيضاء ـ 2016 ــ ص 6
20 ــ ع الكريم برشيد (أنا الذي رأيت) إيديسوف ـ الدار البيضاء 2016 ـ ص 161
21 ــ قدم المخرج عبد المجيد شاكر المقامة الأولى والتي تحمل عنوان (المقامة البهلوانية)
22 ــ عبد الرزاق الربيعي ـ المرجع السابق ـ ص 127 ـ 128
23 ــ عبد الرزاق الربيعي ـ نفس المرجع السابق ـ ص 140
24 ــ ع الكريم برشيد (الاحتفالية في أفق التسعينات ) اتحاد كتاب العرب ـ دمشق ـ سوريا ـ ص 223
25 ــ ع الكريم برشيد (الاحتفالية في أفق التسعينات ) نفس المرجع ـ ص 223
26 ــ ع الكريم برشيد (المسرح المغاربي ) م س
27ــ المسرح المغاربي ـ نفس المرجع السابق
28 ــ ع الكريم برشيد (الناس والحجارة) مونودراما احتفالية في أحد عشر نفسا ـ إيديسوفت ـ الدار البيضاء ـ 2016 ــ ص 24 ـ 25
29 ــ ع الكريم برشيد ( قراقوش الكبير ) ثنائية مسرحية ـ إصدارات أمنية ـ الدار البيضاء 2021
30 ــ المسرح المغاربي .. م س
31 ــ المسرح المغاربي .. م س
32 ــ عبد الكريم برشيد ( صورة المسرح العربي بين الأعطاب والاختلالات والاقتراحات) من ( الندوة الأولي : واقع المسرح العربي مكامن الإخفاق ومواقع التعثر) كتاب جماعي ـ الهيئة العربية للمسرح ـ الشارقة 2011 ـ ص 59
33 ــ المسرح المغاربي ـ م س
34 ــ المسرح المغاربي ـ نفس المرجع
35 ــ عبد السلام لحيابي ( عبد الكريم برشيد وخطاب البوح ) إيديسوفت ـ الدار البيضاء ـ ص 129
36 ــ المسرح المغاربي ــ م س
37 ــ عبد السلام لحيابي ( عبد الكريم برشيد وخطاب البوح) نفس المرجع الأسبق ـ ـ ص 129
38 ــ عبد الرزاق الربيعي ( الحكواتي الجديد عبد الكريم برشيد)
39 ــ ع الكريم برشيد ( زمن الاحتفالية) افريقيا الشرق الدار البيضاء 2017 ص
40 ــ ع الكريم برشيد (أنا الذي رأيتـ مسيرة أفكار ومسار وجود ــ إيديسوفت ـ الدار البيضاء 2016 ـ ص 15
41 ــ عبد السلام لحيابي ( عبد الكريم وخطاب البوح ) نفس المرجع الأسيق ـ ص 103
42 ــ عبد السلام لحيابي ـ تفس المرجع ـ ص 103
43 ــ ( أنا الذي رأيت) نفس المرجع السابق
44 ــ ( أنا الذي رأيت ) م س
45 ــ ( مقامات بهلوانة ) الأعمال الكاملة ـ وزارة الثقافة ـ الرباط
46 ــ د . محمد الوادي (الحلم المغربي) موقع (أنفاس بريس) 13 ديسمبر 2022
47 ــ صلاح بوسريف ( الفرح لا يقال الفرح يعاش) ـ ركن ( الصوت والصدى) جريدة (المساء) المغربية ـ الدار البيضاء 14 ـ12 ـ 2022 ـ ص 1
48 ــ ع الكريم برشيد (الحكواتي الأخير) إيديسوفت ـ الدار البيضاء 2004