لا يتعلق الدور التنويري للمسرح حقا بتحقيق التنمية الشاملة في حدّ ذاتها، بل يتعلق دوره الفعال في تعليم المجتمع وتنميته وتدريبه وتحويله وإحداث التغييرات المأمولة في ذهنية الشعوب وفكرها. ولا يتجسد ذلك إلا من خلال تنمية الفرد عن طريق توعيته بما يحدث حوله، وغرس قيم المواطنة الحقة والتمدّن والتحضّر بخلده وفكره، كي تترسخ مبادئ الشجاعة وأخذ القرار بعزيمة وبمنآى عن كل وصاية.
والمسرح إحدى أدوات الاتصال لتجسيد الفعل التنويري، وقد أثبت وجوده وفعاليته عالميا وعربيا في تحريك الرأي العام حول القضايا الانسانية والسياسية التي تعصف بكينونة الشعوب ووجودها. وتلك الأدوات التي يسخرها المسرح؛ كفيلة بنقل المجتمعات الإنسانية، والقفز بها، من حالات أدنى إلى حالات أعلى، ومن حياة التخلف والاحتزاب والفتن، إلى حياة التقدم والبناء والتعمير، واحترام حقوق الإنسان.
ولئن كان المسرح العربي قد استمد وجوده من المسرح الأوربي، فإنه قد عاد ليسخر هذا الفن الوافد ضده، بعدما تشرب مبادئه وآليات اشتغاله منه، مكرسا إياها في الرد على بعض ممارساته المشينة في حق الشعوب العربية التي صار مسرحها بمثابة ذاكرة حية لها، لأنه مَسرَحَ كينونتها وحيواتها بين الامكان والاستحالة أحيانا، فنطق وباح بمكنوناتها الثقافية والاجتماعية والتاريخية والسياسية، جاعلا منها حصنا حصينا ضد كل التيارات التي تهب عليه، فيتصدى لها محاولا تصفيتها بغربال الفكر والدين والأصالة، ليبقى وفيا لأنطولوجيته في حمل ذاكرته، محافظا على مقدساتها. وهذا ما جعله يستنير في تعامله مع قضايا العالم العربي في جمالها وقبحها وفي بساطتها وتعقيدها بهذا الفن الفسيفسائي الوجود والمسار.
تسعى هذه الورقة إلى تناول تيمة ” دور المسرح العربي بين التنوير والتثوير ” وذلك باستنطاق أهم المحطات والقضايا والملابسات التي عصفت بالمسرح العربي خلال مسيرته، مجلية الأنساق الثقافية والتاريخية والسياسية التي جعلته يصمد في وجه بعض الهزات ليستنير ويثور على ممارسات لا يمكنه التفاعل معها إلا بمحاربتها والقضاء عليها، بالتعبير عنها فنيا وجماليا من خشبة تنضح بوحا وإبداعا وصدقا وتمردا، وقد تسلح بقوانين وجوده، حتى يتجاوزها مغيرا بنياته، ومحركا الراكد والجامد، نحو أفعال دائمة الحركة والتجدد، دون أن ينسلخ من هويته ومقدسات ذاكرته.
فيا ترى ما هي القضايا العربية التي تَشَكَّل إجماع المسرح العربي حولها، فتماهى معها بالتعبير عنها، وفضح تلابيبها عبر أعمال وفنانين ودراماتورجيين؛ تفننوا في تنوير وتثوير الشعوب العربية ضدها؟
إلى أي مدى تمكن المسرح العربي من الاضطلاع بدوره التنويري والتثويري؟ وما الاتجاهات والتيارات المسرحية، أو بالأحرى؛ ماهي أدوات اشتغاله الفنية والجمالية موضوعا وعرضا التي أسعفته في أداء هذا الدور المفصلي الذي من شأنه أن يحقق وعي المتلقي بأهمية تلك القضايا؟؟؟
وكيف تفاعل المسرح العربي مع الثورة التحريرية الجزائرية مقارنة بالدور المحرض والناجز الذي أدته الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني محليا؟؟؟
تلكم هي الأسئلة الاشكالية التي سيكون متن هذا البحث فرضيات وإجابات شافية عنها ولها، متبنيا أدوات النقد الثقافي الذي سيستهدف الرسائل الثقافية المشفرة التي تكمن وراء الأنساق التاريخية والسياسية التي مر بها المسرح العربي في مساره ومسيرته. لعل هذا البحث يستطيع الكشف عن تلك الأنساق المضمرة المغطاة بهالة من التخييل الفني، مع محاولته تفكيك ما يتخفى وراء تلك الأنساق من حقائق وإديولوجيات وأفكار، متوشيا ببدائل جمالية وتواصلية ينشر قيمها عبر مشهدية تجمع بين النصوص بمرجعياتها الفكرية والفلسفية والتاريخية والسياسية، وبين اللغات المشهدية المطّردة التي تبصم ذاكرة المتلقي العربي إيجابا، فيتفاعل معها ومع متغيراتها، وقد أدرك الوعي التنويري الذي يكفل له ذلك.
المضمر بأعمال التاريخ في المسرح العربي
منذ بزوغ نجم المسرح العربي بأحيازه الجغرافية المختلفة، وبوادر اشتباكه وتعالقه مع الانساق التاريخية والسياسية بارزة؛ ويعود ذلك إلى أن التاريخ بمرجعياته، وأحداثه، وزلازله، وهزاته، كان المنبع الخصب للكثير من المسرحيين العرب من ناحية الكتابة المسرحية، فاستمدوا منه موضوعاتهم وشخوص أعمالهم وأحداث نصوصهم المسرحية، الأمر الذي لا يدع مجالا للجدل أن يكون التاريخ مصدر إلهامهم ووحيهم لبعض أعمالهم المسرحية … ولعل الماضي أنسب لاستلهامه في النصوص الحديثة لأنه تبلور بمرور الأيام، فيصير أكثر طواعية بين يدي المؤلف، هذا من ناحية (1). ومن ناحية أخرى انضووا تحت معطف التاريخ لتمجيد الحضارة العربية الإسلامية بغية نشر الحماسة والوعي بحاضر الشعوب العربية التي كانت ترزخ تحت نير الكولونيالية العالمية التي اتخذت من العالم العربي وزيعة اقتسمتها فيما بينها للاستحواذ على خيراتهم الطبيعية والبشرية، ولطمس هويتهم، ومقومات شخصيتهم، لينسلخوا عن قيمهم الدينية والأخلاقية، وعن أعرافهم الاجتماعية التي بفضلها كانت تتماسك المجتمعات العربية، وتشكل لحمة كانت لهم درعا حصينا من الرياح العاتية التي تهب عليهم من الغرب.
فكان هروبا مؤقتا من تناول واقع أليم قد يؤدي بهم إلى الهلاك مسرحته، لكن المسرح العربي بالرغم من ذلك لم يكن مهادنا تماما بل كان يُحمّل عروضه المسرحية الكثير من الرموز والرسائل والايحاءات التي كانت تنتهي بهم في سجون المستعمر؛ وذلك نتيجة تحريضهم للمتلقي العربي من أجل التصدي للعدوان المسلط عليه، حتى أن بعض الأعمال جَنت على مبدعيها.
كما كان لجوء بعض المسرحيين العرب إلى التاريخ، لبعث وإحياء بطولاتهم وأمجادهم، نوعا من التحدي والمواجهة الضمنية، لأن المبدع المسرحي هدف من خلال ذلك إلى إحياء تلك البطولات والأمجاد من أجل استنهاض الهمم، بخاصة أن الكولونيالي كان يفرض الرقابة المشددة على الفكر.
واللجوء إلى التراث والتاريخ كان نوعا من النضال أيضا “خاصة إذا علمنا أن كثيرا من المبدعين قد لعبوا أدوارا أساسية -وطنية واجتماعية – مهمة كما هو الشأن بالنسبة لمصطفى كامل، صاحب مسرحية ” فتح الأندلس” التي ألفها سنة 1893 م. وقبله أدّى “أبو خليل القباني” دورا اجتماعيا سياسيا خطيرا في سوريا، حتى اكتسب مسرحه شعبية كبيرة اضطرت السلطة العثمانية إلى نفيه من دمشق مع فرقته.” (2)
كما يجد بعض المسرحيين العرب في التاريخ والتراث المرتع الخصب والطيع الذي يسعفهم في الفخر بمآثرهم وتاريخهم معوضين ضعف أمتهم في حاضرها وهي تعاني من ويلات الاستعمار، واستثمارها في المواقف الإنسانية بغرض تبرير الفخر والاعتزاز وإثارة الحمية والأنفة في النفوس(3). ولذلك نجد بعض الباحثين نوّهوا بمكانة التاريخ في المسرح بالوطن العربي، وقد وضعوه في المكانة الأولى باعتباره مصدرا ملازما للمسرح(4).
ولنا ما يشفع للالتصاق التاريخ بباكورة الأعمال المسرحية العربية بخاصة الأولى منها لأن الغاية من استحضارها له تكمن في مدى توافقه مع رؤيتها الفكرية للنص المسرحي من حيث تلاؤمه ومقتضى الحال، دون تتبع أحداثه وتقصي تفاصيله لأن ذلك يندرج في مهمة المؤرخين(5). ويمكن الاستدلال على ذلك بزخم من الأعمال المسرحية العربية التاريخية ليس فقط مع نشأة المسرح العربي بل نلفيه رافدا هاما من روافدها ومرجعية تثري وجوده.
وإذا كان التاريخ نسقا لابد منه في مضامين الاعمال المسرحية العربية في البداية، فبكل يقين نلفيه يحيل على السياسي الذي ينشد وعيا وتحريضا ومناهضة للكولنيالية الغاشمة التي هشمت أوصال إنسانية الانسان العربي -نسبيا- لكنه سرعان ما انقلب على استبداده وجبروته عن طريق تبني المسرح السياسي مبكرا، وأضحى سلاحا من أسلحة التوعية من أجل التحرر ” ويكفي أن نذكر على سبيل المثال لاالحصر مسرحية “خالد بن الوليد” ومسرحية “عمر المختار” التي ألفها رائد المسرح السياسي في الوطن العربي فؤاد سليم، ومسرحية “نهاية صهيون” التي كتبها علي بورحيمة وأغضبت المعتمد البريطاني الذي كان يشاهد عرضها في الشارقة”(6). إضافة إلى مسرحة سيرة ومسار الكثير من الشخصيات التاريخية التي كان لها أثرها في قلب مجرى التاريخ العربي على غرار صلاح الدين الأيوبي وحنبعل الذي كان استحضاره لدى أحمد التوفيق المدني لإنعاش واقع تردى، وكان لابد من بعث هذا الرمز الذي لا يغلب المتلقي في ربطه بحاضره.
تلك المسرحيات التاريخية كانت محطة موجعة للكولنيالية، ومع ذلك كان بعض المسرحيين العرب يستهجنون أدرمة التاريخ، ومسرحته؛ وهذا ما جعل المسرحي التونسي محمد عبازة يصرح بإجازته لوجود التاريخ بقلب المسرح العربي في بدايته على أقل تقدير، معتبرا ذلك نوعا من التوازن النفسي للمجتمعات العربية التي تستعيد أمجادها عبره، ولذلك نجده يصرح أن “لقاء المسرح بالتاريخ ليس عيبا لأن المسرح العربي نشأ من التاريخ، ودخوله البلاد العربية تزامن مع فترة النهضة، وتزامن أيضا مع دخول الاستعمار، ومن هنا كان دوره واضحا، ووظيفته محددة، باعتباره ساعد على إيجاد بعض التوازن النفسي للمجتمع العربي الإسلامي المتخلخل بفكر النهضة المستغربة، ومدافع الاستعمار التي تدك حصون العرب والمسلمين… لذلك كانت هذه النشأة التاريخية للمسرح وكانت هذه النظرة التقديسية للتاريخ، من خلال هذا المجتمع.”(7)
الخطاب المسرحي العربي بين ثنائية السياسي والتسييسي
ما يمكن جزمه مبكرا بهذا البحث هو أن السياسة والمسرح بينهما علاقة احتواء؛ إذ يتلازمان ويسيران جنبا إلى جنب، ويقدمان وقائع وأحداثا تمس حياة الإنسان ماضيا وحاضرا ويلونانها فنيا وجماليا بعد وعي المسرحي العربي بما يجري من حوله من هزات العصر وتقلباته، فيخلق من القبح جمالا على الرغم مما يغلف الأعمال المسرحية من قتامة وأبعاد إيديولوجية وأفكار فلسفية، قد تجعلها نخبوية لا يمكن للجمهور العادي استيعابها، لأنها تضمر رموزا ودلالات لا يستطيع تأويلها وفهمها وإفهامها إلا شريحة بعينها من الجمهور. مع العلم أن الخطاب المسرحي العربي لا يكاد يتجاوز الاكتفاء بإبراز الواقع الاجتماعي القاتم، مع توصيف الراهن بضبابية وسوداوية، أي أنه يبالغ في تمرير خطاب يعمق الجرح العربي في القضايا السياسية، فيثبط العزائم من خلال إماطة الغطاء عن الجوانب المظلمة ليس لإضاءتها وتنويرها باقتراح الحلول المناسبة، بل يعمد إلى تمرير رسائل محبطة متناسيا الدور الفعلي للثقافة والفن الذي يكمن طرح القضايا بطريقة مستجدة وأصيلة بهدف تقديم البدائل، مساهما بذلك الجهد الفني والثقافي في مسار التنمية اللازمة والتحولات الاجتماعية المنشودة. ويبقى الأمل معقود على المسرحيين العرب المدعوين إلى تحسين الأدوات الفنية والمشهدية، مع اهتمامهم بتجويد الرسالة التي يودون تبليغها للجمهور العربي.
وإذا كان حضور السياسة له حتميته في بنية أغلب الأعمال الدرامية المسرحية على اختلاف أنواعها وأشكالها بحسب أحمد العشري الذي يرى أن للمسرح طابعا سياسيا يتجسد في استجابته لمتطلبات الحركة التاريخية للمجتمع، على أن الدلالة السياسية هي الدلالة الأكثر شمولا لهذه الحركة التاريخية،
وهذا ما يعلل مدى ارتباط المسرح بالسياسة منذ نشأته. ويدعم هذا الرأي عوني كرومي بتأكيده على قوة الرابطة التي تصل المسرح بالسياسة لأن من أسباب ظهور المسرح عوامل إنسانية سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها، كما يأخذ بتلاحمهما وبعلاقتهما القوية التي تنبثق من ضرورة تفاعل الفنان تفاعلا سياسيا واجتماعيا إيفاء منه لمسؤوليته نحو مجتمعه وعصره، بخاصة ان المسرح مرتبط أيضا بقضايا المجتمع التي يلتزم بها الفنان ويدافع عن صميم القيم التي تمسها السياسة(8).
تجدر الإشارة إلى أن الابداع الإنساني ينسج خيوطه من واقع الانسان الاجتماعي والسياسي وغيره، استنادا إلى ما أكدت عليه مدام دوستال بخصوص علاقة الادب بالمجتمع والسياسة، ولذلك يصور الأدب هذا الواقع المركب بمؤثراته التي تغيره. كما نجد جورج لوكاتش يربط بين الدراما في فترات معينة من التاريخ والظروف الاجتماعية والسياسية التي تؤدي إلى هذا الازدهار، قاصدا الظروف الثورية في المجتمع، لان العلاقة الجدلية بين المسرح والمجتمع طيلة الحقب التاريخية تؤكد دائما مدى ارتباط المسرح بالظاهرة السياسية، ويجسد ألقه خلال الثورات، مستشهدا بانتعاش المسرح في روسيا توافقا مع الثورة البلشفية، كذا في ألمانيا مع ثورتها الاشتراكية. كما عرف المسرح المصري رواجا مع ثورة 1919م التي ألهبها الشعب المصري بكل أطيافه ضد الاحتلال الإنجليزي. بله عن ثورة يوليو 1952م، التي ساقت للمسرح المصري نهضة سميت بنهضة الستينيات (9).
وناهيك عن المسرح الجزائري الذي عرف نشاطا منقطع النظير مع الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني برئاسة الفنان المسرحي مصطفى كاتب، والتي تمكنت من تأليب الرأي العام العالمي على المستعمر الفرنسي، وذلك منذ انطلاق الثورة التحريرية في الفاتح نوفمبر سنة 1954؛ حيث تطلبت المرحلة ربط الثقافي بالتحرري تحت نير هيمنة وتسلط المستعمر، فتم ربط الفعل الإبداعي بالفعل الوطني حين كان ممثلو المسرح جنودا؛ فأبلوا بلاء حسنا بثورتهم المسرحية ضد الكولنيالية الغاشمة (10).
هذا وقد عرف العالم العربي تناول ومعالجة القضايا الراهنة التي كانت تتخبط فيها البلدان العربية، مما جعلها تتبنى المسرح التثويري باعتباره وسيلة للتحريض والتوعية وشحذ الهمم من أجل مجابهة الواقع المعيش المتردي، فأقبل الدراماتورجيون العرب على هذا النوع من المسرح خلال القرن العشرين؛ حيث سادت التيارات النضالية، فكانت النصوص المسرحية العربية تترجم العمل النضالي وتلتزم بالقضايا المحلية، مناشَدةً منها تحرير الانسان العربي من ربقة القهر والاستبداد، فبرزت كوكبة من الدراماتورجيين العرب في مقدمتهم صاحب مسرح التسييس (11 )(*) سعد الله ونوس، والاحتفالي عبد الكريم برشيد، وعز الدين المدني وغيرهم. مع العلم أن نصوصهم كانت محملة بالنقد اللاذع لواقع الشعوب العربية وخيبة أملهم في ظل الشتات وتمزق القومية العربية، واستطاعوا بذلك” تحديد مواقفهم من القضايا الوطنية والقومية ودورهم فيها، فكانت هذه المسرحيات الكاشفة عن مكامن الضعف والمحرض الداعي إلى الثورة والتغيير والعمل على التقدم والرقي والبحث عن الممكن بدل الاكتفاء بالكائن” (12). وكلهم وعي ويقين أن لا تغيير يمكنه أن يتجسد، بدون مسرح عربي تثويري على كل أشكال الاستبداد والاستعباد، وهدر الكرامة والمساس بحرية التعبير، وطمس الفكر القومي، مع تمزيق أوصال الشعوب العربية.
اضطلع المسرحيون العرب بماهية المسرح بسرعة، على أنه ” جماهيري، ولديه قدرة توصيلية كبيرة في ظل وجود إعلامي متنوع، يستطيع أن ينقل صدى المسرح بسرعة، فالمسرح تنوير مقابل الجهل،
والمسرح حرية مقابل القيد والأغلال … والمسرح تغيير في النظام العام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفكري.” (13) كما عرفوا قدرته على نشر الأفكار، فاتخذوه وسيلة توعية ودعاية سياسية للدفاع عن هويتهم وأوطانهم وحضارتهم، مدفوعين بنشوة انتصارهم في تجيير هذا الفن لصالحهم، بعد أن اعتقد المستعمر أنه سيكون له عونا في نشر قيمه التحديثية (14). لكنه ضل المعتقد والتفكير لأن المسرحي العربي سخره سلاحا ضده بينما كان المستعمر قد اتخذه وسيلة لتحضّره واندماجه في ملته وهويته انبهارا بهذا الوافد الجميل !!!
القضية الفلسطينية بين وعي الأنا وتعنت الآخر)
تكاد تكون القضية الفلسطينية من أهم القضايا التي استقطبت اهتمام العالم العربي على الرغم من تباين المواقف فيما بينهم توافقا واختلافا. لكن القضية من وجهة نظر أصحابها مسرحيا؛ كانت تعتبره خطابا مسرحيا محملا بالدلالات التاريخية التي لا تحيد صراحة عن هويتها، حتى وإن كان العدو الإسرائيلي هو الذي يدعم الإنتاج المسرحي الفلسطيني، لذلك تتكفل الأنساق التاريخية بإضمار الرسائل المتعددة الأبعاد تأويلا وقراءة، حتى لا تضيع الذات، وتنصهر الأنا في السياسات التي ترسم، وتحتال، لنفيها، ووأد آمالها، بينما المسرحيون الفلسطينيون يناضلون من أجل نسج ذلك المضمر الايحائي الذي من شأنه أن يحافظ على معنى وجوده. (15) من دون التخلي عن التزاماته، ورهاناته، حتى صار المسرح الفلسطيني “أكثر لقاء بحميمية الانسان، لأن وضعه الاستثنائي كلقاء جماهيري شفاف بعنفه وبرمزية لغته، كثيرا ما جعل وجوده في السياق الفلسطيني مواجهة يومية مع نقيضه إسرائيل، فربط الذات الفلسطينية بكل التوقعات التي صاغت صورتها الدلالة التاريخية في المعنى المتخيل والواقعي في هذا النتاج بدءا من 1948 إلى الآن”. بالفعل ذاك المعنى الضمني المتولد من الدلالة التاريخية الذي تكرس وجوده في المسرح وفي الحياة هو الذي يشحذ همم الفلسطينيين، ويضرم وعيهم، وينير فكرهم، بالرغم من عسر مناهضتهم لواقعهم المرير، فيحرك شعورهم، ويلهب أناهم الموجوعة، ذلك لأنهم يدركون أن قضيتهم “مشحونة بالسياسة وبكل أنواع الاحتلال، والقهر، والظلم، والسلب، والنهب، والصلب، والقتل. المسألة ليست قضية مسرحية فنية فحسب، ولكن لابد من الاقتناع بأن قضية المسرح وثيقة الارتباط بمحيطها،
وأنّ الأمور مرتبطة بعضها ببعض ومركبة، ومن خلال إثارتنا للقضية نستطيع أن نتعاون من أجل الوصول إلى القليل من بر الأمان.”(16) راضي شحاذة على يقين بحقيقة استنبات المسرح بمحيطه المركب والشديد التعقيد، لكن إثارة القضية مسرحيا تنير، لكنها لا تثور، من خلال بثها روح التعاون من أجل تخفيف الوزر لتجسيد ولو القليل من الإحساس بالأمان. إنها رؤية غاية في الموضوعية، ولا يمكنها أن تتهور بالتغني بشعارات مضللة جوفاء، بل تؤثر تناول الوضع بعقلانية وروية واتزان. والاتزان ذاته هو الذي يجعل الفلسطينيين يرفضون الترويج لفنهم وتراثهم عن طريق الاحتلال لأن المعادلة السياسية المركبة والمعقدة جعلتهم مجبرين على التعامل مع الاحتلال.
هذا الاختلاف المر للتجربة المسرحية الفلسطينية عن باقي التجارب المسرحية عربيا، وعالميا، هو الذي جعل المسرح الفلسطيني يتناسل من تلك المرارة، ويتحرك بتعدد هُوياتي لا غرو نسجت خيوطه الرفيعة والبارزة إسرائيل التي تنشد طمس هُويته أو جعلها ثنائية؛ وقد تنصلت من مقوماتها ومرتكزاتها المشكلة لذاكرتها العربية، فصارت هُويةً منفصمة ومخصاة. لكن الوعي بالأنساق التاريخية يسعف هذا المسرح العنيد في استلهام تراثه، وتقديمه في حلل؛ تجمع أكثر من أن تفرق، وكأنه اتخذه أداة للتذكير بالمنبت، وورقة عبور وانفلات من قبضة المحتل، علاوة على تناوله للقضايا الإنسانية التي تضارع واقعه المعيش المزري، فيبعث الفرح من الشقاء لينتصر على جبروت وضراوة هذا الآخر. ولئن كان المسرح الجزائري سخر القراقوز لقض راحة المستعمر الفرنسي، فإن المسرح الفلسطيني يسخر تراثه غير المادي من لباس، وإكسيسوارات، ودراويش، وحكاواتية، ودبيكة، وفلكلور شعبي، وغيره، تحدياًّ منه لهذا الآخر الذي كل همّه أن تخصى هويته، بل على نقيض ذلك مثل هذه الأعمال المسرحية هي التي تبعث على المصالحة مع الذات عبر مسرح لا يبتعد في كينونته، ومفاصله، عن يوميات الفلسطيني، وبيئته ومحيطه، معلنا البقاء، والاستمرار والديمومة عبر فن تواصلي وتوافقي على الإطلاق. مسرح كان له صداه لربما في الآخر قبل الأنا وكمثال على ذلك مسرحيتا “ثورة الزنج” “ومأساة جيفارا” لمعين بسيسو اللتين انتهج فيهما المنهج البريختي (17)، ملتجئأً إلى التاريخ لطرح هموم العالم العربي ومنه فلسطين الذي كان يرزخ تحت وطأة الكولنيالية بشتى أشكالها وأنواعها. ولئن دعا المتلقي العربي لمعاينة ماضيه، فما كان منه ذلك إلا ليلفت انتباهه لحاضره الكليم المأزوم، مسائلا مرجعيته بأنساقها التاريخية والسياسية ليدفع بها القمع والترهيب المسلط عليه.
القضية الفلسطينية بين الائتلاف والاختلاف العربيين
كثيرا ما يرتبط المسرح العربي عبر تجاربه بالقضية الفلسطينية بوازع قومي، فيرصد حادثة تاريخية، أو انتفاضة مزلزلة ومقرعة أو جرما مشهودا … ليكون مصدر إلهام للمسرحيين وموضوعة لنصوصهم المسرحية. لكن الحدث الذي كان له عظيم الأثر في تحريك الضمير العربي وفي التفافهم حول أم القضايا ” فلسطين” التي أسهمت في إلهاب القرائح، “وازدادت الحركة المسرحية نشاطا بخاصة بعد هزيمة العرب أمام العدو الصهيوني عام 1948 لرفع الهمم وتحريض الناس على العدو المغتصب…”(18) وهكذا كانت مواقف المسرحيين العرب بين اتلاف واختلاف حول القضية الفلسطينية التي كانت، ولا تزال تحرك الراكض، نظرا لأهميتها في أنطولوجية الانسان العربي أجيالا بعد أجيال. وهذا ما جعل المسرحيين العرب يفوضون فكرهم ويراعهم، من أجل الاسهام في فضح ما يحاك ضدها من ألاعيب سياسية يتفنن في إتقان اللعب فيها وبها. وكان لهم العديد من المسرحيات إن في المسرح السياسي الثوري، أو في مجال تسييس المسرح، ومن أهم النصوص ما يلي:
تبنى كاتب ياسين التكنيك البريختي في نصه المسرحي “فلسطين المغدورة” الذي وقف فيه موقف المستنكر لما تتعرض له من غدر وخيانة، حيث اتكأ على نظام اللوحات المستقلة عن بعضها بعضا من حيث أحداثها ووقائعها وعرضها لظروف ومشاكل العصر التي كانت تؤرقه باعتباره مثقفا ملتزما بما يحدث حوله من عقابيل سياسية واجتماعية. وبالرغم من تلك الاستقلالية فيما بين اللوحات بمحتواها الخطابي إلا أنها لا تحيد عن الخط العام الذي رسمه لها، لأنها لا تخرج عن الفكرة الأم “فلسطين” وعن المضمون العام للمسرحية الذي ينشد محاربة الفساد الاجتماعي والاستغلال الإنساني الذي يطال الفلسطيني في يومياته وحياته، فتمس كرامته، ولذلك يرفض كل الوجود الاستعماري كيفما كان.
ويبقى البناء الداخلي لنصه يحركه الاغتراب؛ أي اغتراب المواطن العربي الذي حمل خطابه للشخصية البطلة “محمد بن زيتون” الذي ناشد من خلاله معالجة مسألة “أزمة الانتماء” في الأوطان العربية مشرقا ومغربا، مشيرا ضمنيا إلى ما يشوب الموقف العربي من هذه القضية من اختلاف وائتلاف، جعل التواطؤ العربي وخذلانه يطفو إلى السطح ويعري النوايا ويسقط الشعارات الجوفاء. ولم ينسلخ ياسين عن قناعاته وأفكاره في الالتزام بالقضايا الإنسانية لأن الفن عنده “جزء لا يتجزأ من حياتهاليومية ومن ممارسته السياسية، ومبادئه الفلسفية، فهو التزام بقضايا الوطن وإن ارتدت هذه القضايا مظاهر مختلفة.” (19) ومن إظهاره لعظمة شعب الفيتنام من خلال شخصية “هوشي منه” مسرحية “الرجل ذو النعل المطاط” إلى ” لخضر” في نجمة والجثة المطوقة، إلى “محمد الزيتون” في فلسطين المغدورة، وكلهم حمّلهم وزر أمتهم وقضيتها وجعلهم نماذج إنسانية ترفض الضيم، وتقف عارية الصدر وكلها استعداد لكل أنواع العذاب ولا يزيدها ذلك إلا إصرارا على التشبث بمبادئها وقضيتها مهما تغير المكان وسائسه.
وبالجرأة الياسينية المعهودة أشار الكاتب إلى خدّام السلطة الدينية ومحابيها، إلى جانب هؤلاء الذين يتذرعون بالدين، ويختفون وراءه، من أجل تحقيق أطماعهم، ومصالحهم الشخصية، وقد تمكن منهم الطمع والجشع. وقد ألبس هذا الخطاب السلبي ل”الحاخام الربي” وهي شخصية صهيونية تمثل الديانة المسيحية، ومن ينتهجون نهجه مثل خادمه “موسى” اليهودي، علاوة على لفيف التجار والانتهازيين من أصحاب المال والنفوذ. ووفاء منه لموقفه الصريح حيال أدعياء الديانات، والمتسترين تحت تعاليمها، أبان عن أشخاص مسلمين؛ لا يقلون خسة عن خادم الصهيون وتابعه، مثل شخصية “المفتي” الذي يمثل الدين الإسلامي ممن يسخرون تعاليم الدين لخدمة مصالحهم وأهوائهم، ورافقه بأتباع له من المنافقين مثل “بودينار” السمسار المتورط في قضايا مشبوهة تخص بيع الأراضي الفلسطينية مع ترجيحه لكفة الصهاينة.
ولم يتوان أبدا عن التنديد صراحة ببعض السياسيين العرب الذين فرطوا في فلسطين وانقلبوا عليها، بينما نلفيهم ينادون بالوحدة العربية وبالحرية، لمغنطة شعوبهم حتى يخلطوا الأوراق سياسيا، محافظين إلى أسباب بقائهم في السلطة، وخلودهم بها. وليزيد الصراع حدة، ومثلما تناول الدول العربية، فإنه سلط لجام استنكاره على بعض الشخصيات ذات الانتماء اليساري في الدول الغربية والأوربية والأمريكية والتي بلغت أذيتها وإساءتها لكل الشعوب بعد اختلاقها للحربين العالميتين؛ على غرار المندوب البريطاني هيربرت صموئيل ورئيس أمريكا روزفيلت، والإسرائيلي موشي ديان. ويتعرض لتأزم القضية الفلسطينية وهي تزداد عسرا وتعقيدا بسبب التواطؤ الذي يظهر في أشكال شتى بين الطرفين عربا وأوربيين متغافلين عن التوسع الإسرائيلي الذي يطال الأراضي الفلسطينية.
وبين تلك الأسماء التاريخية كان للإنسان البسيط حظه في النص الياسيني؛ ونظرا لشعبيته جعله سويا وحياديا، غير منتم لا إلى هؤلاء ولا لأولئك، لكنه كان ضعيف النفس، خائر القوى، مما يجعله ضحية لمزالق وأزمات عصيبة، لكنه يقاوم رافضا الاستسلام للخنوع والابتذال والمهانة. ويسعى لتموقع أناه ولو في ذلك الوجود الموبوء. “محمد بن زيتون” الذي يحس باللا انتماء وبالاغتراب.
تقاذفت الأنساق السياسية والدينية بأبعادها المتباينة أحداث المسرحية، لكن ياسين جعل “محمد الزيتون” مفعما بالتفكير الإنساني الذي خبر واقعه، واستعاد عزمه وإرادته، وشق طريقه للتخلص من ربقة الاستبداد والاستعباد، فضمنه إديولوجية الفكر الاشتراكي الماركسي الذي يتمرد على كل أنواع الاضطهاد في المجتمع، فاستأنس حضور هذه الشخصية (وكأنها أناه) فلقبها ب “مح” استلطافا واختزالا لمحمد الذي يمثل أيضا الشعب الذي أصيب في كرامته، ومُسّت مقوماته الفكرية والهُوياتية؛ حيث أورد على لسانه خطاب ثلة من الفلاحين والقرويين إذ يقول:
مجالس عمل السوفيات الداو (بمعنى أخذوا) الحكم في الحين
وافتح للإنسانية وطبقات العمال الكادحين
طريــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــق التحرير والعهد الزيـــــــــــــــــــن
هذه دبزة (ضربة) زفرية لحقت دبزة فلاح الاشتراكية ما تجي
غير بالكفاح هذه دبزة زفرية(20)
هي دعوة كاتب ياسين من خلال هذا المقطع من نشيد بنصه المسرحي إلى تبني النظام الاشتراكي بغية شجب ويلات الاقطاعية والرأسمالية الامباريالية اللتين تستنبتان معالم الرجعية في الشعوب المغلوبة على أمرها، مع تأييده لثورة السابع عشر أكتوبر الروسية التي كان لها الدور المفصلي في تحفيز الشعوب على مطالبتها بحقها في العيش الكريم بعيدا عن الاستبداد والاستعباد…
ومن مصر صدح صوت محمود دياب بمسرحية “باب الفتوح” التي ألفها بعد نكسة الخامس من حزيران 1967، محملا مسؤولية تلك النكسة النكراء للمؤسستين العسكرية والسياسية، فترجم غضبه بانتقاد لاذع، مجليا آثارها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإنسانية والوطنية والقومية في الشعوب العربية. فكان موقفه من تلك النكسة موقف استنكار، ومن الطبيعي أن يجعله من ألد المناصرين للقضية الفلسطينية والمدافعين عن بيت المقدس، ذائدا عن هذا الصرح الديني الذي سيبقى محط فخر واعتزاز.
أدان محمود دياب وندّد بالتخاذل والتراجع والاستسلام الذي تسببت فيه بعض السياسات العربية آنذاك حتى وإن استلهم ما أفرزه القرن الخامس الهجري من أحداث في الحيّز العربي وفي بلاد الأندلس، وهو بذلك يسائل الماضي الذي يراه صنوا للحاضر. ففكك وقوض كرونولوجيا التاريخ من فترة إلى أخرى وهو يعري المضمر الأليم الذي أصاب الوطن العربي في عِقْده وعقيدته وفي أقدس مقدساته. وقف في القرن الحادي عشر الميلادي حيث زُور التاريخ، وطُمست الحقائق، وازداد الطغاة تعنتا وضراوة بقطعهم للرقاب وارتكابهم لأبشع الجرائم في حق المسلمين، مكشرين عن انيابهم، وقد أبانوا عن طمعهم في السيطرة على فلسطين. لقد لخصت هذه المسرحية بحق الفكر السياسي للكاتب وموقفه الواضح من النكسة، وذوده عن القومية العربية، وانتصاره للضمير الشعبي في صراعه مع كيان بني صهيون (21)
وقد حمل موقفه من النكسة ورؤيته لها لشخصية “أسامة بن يعقوب” الذي صوره طليعيا واعيا بواقعه ومنتصرا لقضيته بجرأة وثبات، وهو معبأ بحمولة ثقافية وتاريخية ثرة. رسم معالمه في تضاد حاد مع كاتب السلاطين” العماد الأصفهاني” الذي يمثل الفساد ومناصرة الانتهازيين ومحاربة المثقفين من أجل تجسيد مراميه الخسيسة. موقف محمود دياب كان حثيثا في البحث عن الخلاص واسترجاع سيادة الشعب الفلسطيني، ومناصرته في تحقيق أحلام فقرائه البسطاء متى شدت على يديه الدول العربية في تخضيبها للأسلحة بفكر وتدبر وروية، والتفاف فعلي حول أم القضايا فلسطين.
ولا تسع مساحة هذا البحث لقراءة وتفكيك المضامين الجوانية، وما تكتنزه من حقائق، ووقائع، ومرجعيات تتقارب وتتباين؛ من حيث أنساقها الثقافية والفلسفية والتاريخية والسياسة والسيكو اجتماعية التي غصت بها النصوص المسرحية العربية والتي قاربت القضية الفلسطينية. ويعود ذلك لكثرة النصوص التي حملت الوجع، ولم تعوزها الحماسة، ولا القومية، والجرأة والجراءة في استنطاق الأنساق السياسية والتاريخية التي كانت سببا في التعتيم الذي يطال القضية الفلسطينية مع تلك النكسة التي حتى وان انجلى ليلها البهيم، فإن آثارها لم تمحي وسقمها لم يكلم. ومن بين تلك الأعمال المسرحية العربية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” لسعد الله ونوس، و”واقدساه” و”اليهودي التائه” ليسرى الجندي، و”كيف تركت السيف” لممدوح عدوان” و”ديوان الزنج” و”ثورة صاحب الحمار” لعز الدين المدني”، و”النار والزيتون” لألفريد فرج، ورحلة إلى القدس لنور الدين عبة (22 * ) دون نسيان الكاتب والمخرج الجزائري المهاجر حمة ملياني… وهي عناوين بمثابة غيض من فيض مسرحي عربي ما انفك ينبري للدفاع عن القضية الفلسطينية حتى في ظل ائتلاف عربي معلن أحيانا، واختلاف مبطن بأرزاء التراجع والخذلان أحايين أخرى.
الخطاب المسرحي الجزائري، والفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني؛ لا مهادنة وتحريض.. قبل أن يتبنى المسرح العربي الثورة التحريرية، فإن المسرحيين الجزائريين المجاهدين قد قدموا الكثير من الأعمال المسرحية التي ألّبت المتلقي الجزائري ضد المستعمر، من دون أن يكون بحاجة إلى الاحتفاء به ضمن استراتيجية تلقّ تجعله لصيقا بهذا الفن، المواضيع والأفكار الثورية التي تناولتها تلك الأعمال وحدها كانت كفيلة بجعله متلقيا وفيا، لهذا الفن التحريضي، يتلقف عروضه بشغف وعشق كبيرين. إذ كانت الثورة هي الموضوع المهيمن على المسرح الجزائري قبل الثورة، وأثناءها وبعد الاستقلال. وكان معقلها “أوبيرا الجزائر” التي صارت فيما بعد المسرح الوطني الجزائري التي صارت خشبته تعج بالعروض المسرحية التي قضت مضجع المستعمر، وجعلته من حين لآخر، يسلط لجام غضبه على الفنانين الجزائريين، ويمنعهم من تقديم عروضهم. ومنهم من تعرض للسجن والشهادة على غرار الأديب والمسرحي الجزائري أحمد رضا حوحو الذي كانت أعماله بمثابة مسامير تدق في ظهر المستبد.
وتبقى الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني هي أهم فرقة واكبت الفعل الثوري داخل الجزائر وخارجها، وبفضل ما قدمت من أعمال فنية، صار الرأي العام العربي والعالمي متابعا لأحداثها وأوجاعها ومتفاعلا مع وقائعها الأليمة التي كانت تهز العالم، الأمر الذي جعل للثورة أصدقاءها حتى من صفوف المستعمر وقد انقلبوا على مطامعه وأطماعه بسبب وازعهم الإنساني على غرار الطبيب النفسي فرانس فانون نصير المضطهدين والمقهورين، وناهيك عن المسرحي المارتينيكي دانيال بوكمان في مسرحياته وأهمها “القصة الحقيقية لحورية” التي لم تكن إلا رمزا للمرأة الجزائرية، ومنها الجزائر التي تناضل من أجل افتكاك حريتها. وغيرهما كثير من النساء والرجال.
وبالعودة للفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني الجزائري برئاسة رائد من رواد المسرح الجزائري مصطفى الكاتب، وبانخراط فنانات وفنانين ليس من المسرح فحسب، بل من شتى الفنون؛ موسيقى وغناء وشعرا ورقصا شعبيا، ومن مهن العرض المسرحي المختلفة. ومن الأعمال التي قدمتها مسرحية “أبناء القصبة” التي نوهت بالعمل الفدائي في المدن وهي لعبد الحليم رايس، و”حسان طيرو” لرويشد، و”الحاجز الأخير” لمصطفى الأشرف، و” أصوات في القصبة ” لحسين زاهر، و”الزلزال” لهنري كريا، و”الهارب ” للطاهر وطار وغيرها من الأعمال المسرحية التي تزخر بها الذاكرة الوطنية للثورة التحريرية. ومن الأعمال المسرحية التي ركزت على الكفاح المسلح في القرى والأرياف على غرار مسرحيتي “الخالدون” و”العهد ” لعبد الحليم رايس، و”حنين إلى الجبل” أو” المعركة” لصالح خرفي وغيرها.
أما المسرحيات التي كان لها صدى مزدوجا وطنيا ودوليا وقد جادت بها الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني واهتمت فيها بموضوعة “المقاومة الوطنية” والتي كللت بالثورة التحريرية؛ فهي “نحو النور” لمصطفى كاتب، و”الجثة المطوقة” لكاتب ياسين، و”احمرار الفجر” لآسيا جبار، ووليد كرن، و”الزوبعة” لمولود معمري وغيرها.
كما أن هناك من المسرحيات التي عالجت الثورة الجزائرية؛ منها ما ألف قبل الاستقلال، وأخرى ظهرت إلى النور بعده مثل مسرحية “الولادات” لمحمد بوديا، ومسرحية “132 سنة” لعبد القادر ولد عبد الرحمان كاكي، وفي “انتظار نوفمبر جديد” للجنيدي خليفة، و”التراب والبشير ” لأبي العيد دودو، والمسرحية المقتبسة من قصة الطاهر وطار “الشهداء يعودون هذا الأسبوع” التي لايزال صداها ممتدا لغاية الآن.
تجدر الإشارة إلى أن اللحظة الحاسمة في تاريخ المسرح الجزائري تقع عقب اندلاع حرب التحرير؛حيث أصبح المسرحيون أمام خيارين لا ثالث لهما إما البقاء في الجزائر ومواصلة نضالهم الفني بالرغم من الضغوطات التي تمارسها الرقابة الكولونيالية. وإما اختيارهم للمنفى حتى يواصلوا مهمتهم الطلائعية حتى وإن كانت هذه الفترة تتطلب منهم الالتفاف حول هدف سام واحد، هو جلاء المستعمر، واستعادة السيادة الوطنية، وكرامة الفرد الجزائري المتمثلة في حريته. وهذا ما اضطرّهم تبنى الاختيار الثاني؛
فكانت فرنسا هي المنفى الأول بين سنتي (1955-1958) حيث ضيق المستعمر عليهم الخناق فكانوا ضحية ضغوطات سياسية خانقة. الأمر الذي ما جعلهم لا يكتفون بعملهم المسرحي بل انخرطوا في العمل السياسي أيضا، وشاركوا في الكثير من المظاهرات التي كان ينظمها المغتربون الجزائريون احتجاجا منهم على السياسة الاستعمارية القمعية التي كانت تمارسها الشرطة عليهم. وغالبا ما كانت العروض المسرحية التي دفع ثمن تذاكرها الجمهور تتحول إلى مظاهرات سياسية صاخبة.
أما المنفى الثاني فكان عربيا بتونس بين سنتي (1958-1962) وكانت مرحلة مهمة في تاريخ المسرح الثوري الجزائري في بلد عربي شقيق. إذ استمر الحراك المسرحي طوال هذه الفترة التي أنشأ فيها مصطفى كاتب “فرقة المسرح الجزائري” التي قدمت أعمالا مسرحية داخل الوطن وخارجه سنة 1957؛ وتسنى لها أن تشارك في موسكو بمهرجان الشبيبة الديموقراطية العالمية (23 * ) بمسرحية “أبناء النور” لعبد الحليم رايس، وهي السنة نفسها التي استجابت الفرقة فيها لنداء جبهة التحرير الوطني. ونجد مصطفى كاتب يقول في حق فرقته المسرحية: “بالنسبة لفرقتي فقد كنا نشارك في المسابقات. وقد فزنا بالجائزة الأولى في الأعوام الواقعة بين 1949 و 1953…” (24) فضلا عن أن الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني، قدمت أول عرض لها في الخامس عشرة من أبريل سنة 1958 بالمسرح البلدي بتونس. وقد وصف مصطفى كاتب شكل مسرحية “نحو النور” أنها تكونتمن لوحات فنية تمثيلية لكفاح الشعب الجزائري. (25) وتوجت المسرحية بإعلان الشعب الجزائري عن قراره في التحرر من نير الاستعمار الفرنسي: ” لم يعد أحد يرقص اليوم، أبنائي منهمكون في الكفاح،
فقد أراد العدو الخارجي أن يسلبنا أغانينا وضحكاتنا، فغطى أصواتنا بالمدافع والقنابل، ولكنه لا يستطيع إجبار شعب بأكمله”. (26)
هذا وقد صالت وجالت الفرقة في أصقاع الدنيا مرة بجولة في تونس ومرات في كل من ليبيا ويوغوسلافيا وكرواتيا وصربيا ومقدونيا والصين والاتحاد السوفياتي… وغيرها. وقد لخص نوع نشاطها أحد أقطابها عبد الحليم رايس حين قال” إن المسرح بالنسبة لنا يمثل إطارا للكفاح، لان المسرح الجزائري مسرح ملتزم، يعمل في صميم الثورة، وإننا نمثل مسرحا شعبيا يعيش في مرحلة حرب… إن مسرحنا الواقعي ينبغي أن يكون مسرح جبهة التحرير الوطني ” (27 ) وما لا يقبل السجال هو أن الفرقة أدت واجبها الوطني بإخلاص ووفاء للقضية التي تسامع بها العالم، وباستماتة من أجل إسماع صوت الفنانين الذي صدح بجرأة وعزم مميطا الغطاء عن جرائم المستعمر الغاشم.
يسع القول مع تحري الموضوعية إن الأعمال المسرحية في هذه الفترة لولا وطنيتها وأهدافها السامية السياسية والثورية لعدت دون الامتياز المأمول تقنيا وجماليا، نظرا لسطوة النزعة الخطابية والأسلوب المباشر (نسبيا)، والعناية بالصياغة اللفظية دون الاهتمام بظلالها وايحاءاتها، مع ترجيح كفة أسلوب الخطابية على التعبير بالحركة والعناية بالصراع الدرامي والرمز، وغالبا ما انصب اهتمام المسرحيين على المضمون الدسم دون الشكل… كما أن الوطنية ليست بالضرورة صراخا بل لعل مونولوجا أقرب إلى الهمس قد يؤدي الغرض بمنآى عن الجعجعة اللفظية الصاخبة. لكن هذه السمات لم ينفرد بها المسرح الجزائري فحسب بل حتى المسرح العربي إبان المد الثوري والتحرري.(28)
السؤال المسرحي العربي للثورة الجزائرية وتفاعله مع أنساقها النضالية والثورية لقد آمنت الشعوب العربية بقضية الثورة الجزائرية المظفرة، وما كان من المسرح النضالي ذي البعد القومي العربي إلا أن انجلى في صور شتى عبر أعمال مسرحية كان لها صداها في المتلقي العربي على اختلاف مشاربه. حيث استنكرت كل أشكال الغطرسة الكولونيالية المسلطة على الشعب الجزائري الذي قابلها برياح هوجاء من كل أصقاع الوطن تقودها النفوس الثائرة التي ضاقت درعا باستغلالها واستعبادها، مما جعلها تشعلها ثورة تنشد التغيير الشامل للمجتمع. وكان المسرح بكل اتجاهاته ثوري همّه الأسمى هو التغيير بقلبه لموازين الأفكار والايديولوجيات البالية في وجه المستعمر، وما يرمز له من قوى الشر والقهر والاستيطان.
وكثيرا ما ربط المسرح العربي تناوله لموضوعة الثورة الجزائرية بسياقها التاريخي التحرري الذي يحرض على تقصي جماليات جديدة تسعفه في التأسيس لنظرة مستجدة استلهمها “من هنا جاء اهتمامه بالثورات التحررية في العالم، التي استطاع نمذجتها من خلال رموزها. إن اهتمام المسرح بمثل هذه الموضوعات هو في الواقع تحصيل حاصل لوعي المنتج ذي النزوع الوطني والقومي والعالمي. فكانت المعالجة ضمن السياقات نفسها”(29) كما لم يفته تناول موضوع “السجن” الذي لا يمكن عزله عن تيمة الثورة. وكانت عروضهم تغص بحب الوطن والقومية العربية والتآزر فيما بين الأحرار مكرسين مسرحهم للحض على الكفاح وتغذية النضال. فبرز بذلك المسرح النضالي العربي الذي أضحى الملهب والمتابع للثورات الكبرى ومن بينها الثورة الجزائرية التي ألهمت الكثير من الثورات. وأصبح همّ المسرح النضالي، ومهمته في تلك الأثناء هي الرغبة في التغيير، متخليا عن الوظيفة الترفيهية والجمالية، وتحقيق المتعة عبر الفرجة المسرحية فقط.
ومن بين الفنانين المسرحيين العرب الذين أغرتهم الكتابة عن الثورة الجزائرية نصا وعرضا الدراماتورج التونسي “محمد فرج الشاذلي ” الذي كتب مسرحية “البطلة” التي نشرت بمجلة الفكر التونسية سنة 1961 م. وتمحورت المسرحية حول مساهمة المرأة الجزائرية في الثورة، وخوضها مجال النضال الوطني الجزائري إلى جانب الرجل. حيث تصور المسرحية معاناة الشخصية البطلة “سلمى” التي تعرضت للاغتصاب عندما داهم المستعمر منزلها الاسري، ولم يكن أمامها من حل غير الهرب بوزر الحمل إلى معقل الثوار. ومن مميزات هذا النص المسرحي تقديمه لصورة من صور التراجيديا السوداوية التي تسم جانبا من جوانب الثورة، مبرزا العمق الانساني والأبعاد التحررية السامية. فكانت آية من آيات التعاطف العربي مع الثورة الجزائري منذ إطلاقها للشرارة الأولى. وعرضت أحداثها في نفس ملحمي واحد، مصورة مواطن البطولة التي ميزت أفعال الثوار وتحركاتهم ومواقفهم المشرفة.
كان لليبيا أيضا مسرحية “ثمن الحرية” التي جادت بها الفرقة الوطنية للتمثيل، مثيرة موضوع الكفاح الجزائري في حربه على فرنسا. والمسرحية من ـتاليف وإخراج “عبد المنعم دياب سنة 1961م وعرضت بمسرح الحمراء، وقد خصصت عائدات التذاكر لجيش التحرير الوطني. هذا وقد مسحت المسرحية العنف الثوري والتدفق النضالي الذي لا يهاب الموت المحذق بالثوار من كل جانب، وقد عصف بهم جراء القتل الجماعي الذي سلطته قوى الاستعمار الغاشم على الشعب الجزائري، هادفة إلى إبادته بكل الوسائل اللا انسانية الجائرة.
ومن ليبيا إلى سوريا مع مسرحية “الغضب” لمصطفى الحلاج الذي عالج ويلات التعذيب الوحشي الذي يطال المناضلين الجزائريين بلا أدنى حياء أو عفة أو تأنيب ضمير، أو رحمة أو شفقة. ولم يزد هذا التضييق والضغط الاستعماري إلا أنه كان يُقابل بالصمود والتحدي حتى ولو كان المقابل هو تسليم الروح إلى بارئها. ويترجم هذا العمل مدى تفاعل الضمير العربي مع الثورة الجزائرية التي أحالتهم على صدمة فلسطين التي لم يكن العرب قد عرفوا مثيلا لخيبة أملهم بتاريخهم مثيلا لمصابها الجلل. كما امتازت المسرحية بصدقها في التعبير عن الشعور العربي الملتهب بلغة الرصاص. وعصارة هذا العمل انه ليس تحريرا لديار جزائرية أو مغاربية، ولكنه رمز لانتصار عربي مكين، أبان العمل عنه بطول نفس ووحدة شعور وتلوين في البناء الدرامي.
وكان للتأليف المسرحي العربي المناصر للثورة الجزائرية من الأردن مسرحية ” دماء في الجزائر” للمسرحي الأردني “منير الطاهر” الذي قدمها سنة 1959بعمان حين كانت الثورة الجزائرية في ذروتها، إذ ” أدانت المستعمر الكولونيالي وجرائمه ضد الشعب الجزائري، ونادت باستقلال الجزائر وحريته. فكان عرضا يلامس روح الثورة الجزائرية، ومواقف الأبطال الذين قدموا أرواحهم راية تخفق في سماء الوطن.. إنها منبر ثقافي وسياسي لإدانة المستعمر الفرنسي الشرس وتعتبر هذه المسرحية أول مسرح يومي في الأردن حيث استمرت عامين كاملين جابت كل مناطق الأردن من المدن والقرى والبادية وكانت تؤجج مشاعر الحضور ويهتفون للثورة الجزائرية وللأمير عبد القادر الجزائري وينددون بالاستعمار الفرنسي. (30) وهي بذلك قد أبانت عن تضامن فعلي مع الشعب الجزائري دعما له من أجل ظفره بالحرية. كما نوهت هذه المسرحية ببطولة كل من مصطفى بن بو العيد، والعربي بن مهيدي وزيغود يوسف الذين دوخوا المستعمر. كما صورت فظاعة التعذيب الوحشي الذي كلل باستشهاد البطل الرمز العربي بن مهيدي مضحى بروحه من أجل أن تحيا “أم المعالي” وهو اللقب الذي كَنَّت به المسرحية أرض الشهداء. واستطاعت المسرحية أن تخلق الجمال من أبشع صور القبح؛ إذ جعلت الموت والشهادة تحملان دلالات وأبعادا جمالية فنية لأن التضحية والموت يرميان إلى تحقيق الحياة الكريمة. والجديد على مستوى البناء الدرامي الذي توشّت به هذه المسرحية هو استعارتها للفعل الحركي والدرامي، ومزجها بين المفاهيم الحسية والمعنوية التي سخرت في النص من أجل دحض قوى الشر.
وقد أنشدت سيمفونية النصر عن طريق البذل والعطاء لإدراك الأهداف المنشودة من الثورة عبر لوحات مشحونة بلمسات إبداعية عكست المعاناة الحقيقية الصادقة التي يتحملها المبدع العربي جراء تفاعله مع الهمّ العربي، ومنه الثورة الجزائرية. وما يحسب لهذا العمل أنه لم يفرق بين ثنائيات توافقية مثل الانسان والأرض، والوطن والشعب، والوجود والحدود وغيرها من أجل تأكيد هوية ووطنية أمة عربية تعرف كيف تناصر بعضها بعضا عند الملمات.
هذا وقد جادت بلاد الرافدين بمسرحية “ثورة الجزائر” لفرقة هواة الفن التمثيلية برئاسة عبد الحميد الرويني. حيث جعلت من جيش التحرير الوطني الجزائري عصب العمل، مشيدة ببطولات الجنود البواسل، فأتحفت الجيش بثلة من الألقاب على غرار “الجيش الصاعق” و”جيش النصر المظفر” و”الأسد الهصور”، وهو الذي لا يزول صموده ولو بزوال الجبال، كما أنه الراقص على أنغام الحرب.. وأنه قادر على هزم كل الجيوش مهما كانت قوتها وصمودها (31). ولم يفتها تناول دور العمل الفدائي في المدن الذي رأته رافدا وداعما للجهاد في صفوف جيش التحرير الجزائري بالجبال. وقد وقفت في مشهد من مشاهدها عند عملية فدائية زلزلت باريس سنة 1957م وكان لها أثرها في الأوساط السياسية والإعلامية بفرنسا.
يسع القول التقييمي لهذا العمل المسرحي إن لغته تميزت بالثراء والمراس في الآن نفسه. علاوة على الحوارات المركزة بعيدا عن السقوط في المجانية والابتذال والتقريرية، مع تجاوز مألوف الكتابة المسرحية إلى التجريب والتجديد، والايحاء والتلميح للغة الدرامية الملحمية الحية التي عبرت ودلت على الصراع التراجيدي الذي خاضه البطل الثوري وفلح فيه. هذا وقد تمكن الكاتب من التعبير عن انفعالاته بصياغة متماسكة ومحكمة؛ تعكس تمكنه من صنعة التأليف المسرحي، مع سبكه للأبعاد القومية والإنسانية في الوقت نفسه، من أجل تبيان الأواصر التي تربط الثورة الجزائرية بالتاريخ العربي باللحمة العربية عند القضايا المصيرية التي تهدد أمنهم وتمس كرامتهم.
تلتقي المسرحيات العربية المحتفية بالثورة الجزائرية والمتفاعلة مع أحداثها في تناول لوحة من لوحاتها، حتى أن قارئها لو جمع فيما بينها لحصل على ملحمة شاملة لها ولوقائعها. كما تنوه بالشعور القومي الكبير الذي يحز في نفسية المبدع العربي الذي يؤثر البوح على الصمت والخذلان. هذا وكان همها الأول هو تناول المضامين التراجيدية الموجعة والمشرفة لهذه الثورة، وهذا ما جعلها تضع الجانب الجمالي الفني في الدرجة الثانية، ذلك أن المهم في الفن ليس التجسيد الفني الجمالي لذاته فحسب، وإنما المعول عليه هو التجسيد لموقف وقيمة إنسانية شاملة…
صفوة القول في الأخير؛ إن المسرح العربي بين التنوير والتثوير سيظل حقلا خصبا للبحث والتقصي في سياقاته وأنساقه عن مضمرات غير معلنة بظاهره، بل مداراة ومختفية جوانيا تحت لغات مشهدية جمالية تدس المضمر بين السطور. لقد تمت مساءلة القضايا العربية التي حققت الاجماع، وحرضت على فضح تلابيب الكولونيالة وإجرامها الفاحش، مع مناصرتها للحق والضمير الإنساني والملتزم بالقضايا العادلة. وعلى ديدن النقد الثقافي لم تتم المعاملة مع النصوص، والخطابات الجمالية والفنية، باعتبارها رموزا جمالية، ومجازات شكلية، ذات ظلال، بل باعتبارها أنساقا ثقافية مضمرة؛ تترجم ثلة من السياقات الثقافية التاريخية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية التي انضوت تحت جنبات النصوص المسرحية في ظل عسر الحصول على العروض الفرجوية لتلك النصوص. وباستكشاف أنساقها التاريخية والسياسية والتسييسية المضمرة أدركنا مراميها التي تخدم التنوير أكثر من التثوير؛ لأن الأول منهما مرافق للخطاب المسرحي بشتى أنساقه وسياقاته، لكن أن يجسد الدور التثويري فذاك ما يبدو علنا،
لكن جوانيا التنوير هو الذي يفري فريه، ويحقق نتائج التفاف العرب حول القضايا العربية؛ ومحركهم الأساس هو الغيرة على القومية والهوية العربية، هذا المحرك الذي تناسل عنه ريبرتوار مسرحي سياسي ثوري ونضالي تبقى هذه الورقة حيية أمام زخمه وثرائه ورقي معانيه ودلالاته. والمسرح العربي في تناوله للقضايا الكبرى يبقى بين هذا الثنائية النبيلة "تنوير وتثوير" سيدا وصاحب جرأة وجراءة وقرار…
الهوامش:
1/ينظر، أحسن تليلاني، المسرح الجزائري، دراسات تطبيقية في الجذور التراثية وتطور المجتمع، دار التنوير،ط1، الجزائر2013، ص45.
2/ يحيى البشتاوي، وقفات في الفلسفة والفن، دار الكندي للنشر والتوزيع، ط1، الأردن 2009، ص 52.
3/ ينظر، أحسن تليلاني، المسرح الجزائري، مرجع سابق، ص 19.
4/ ينظر، ميراث العيد، المسرح الجزائري، نشاته وتطوره، منشورات مخبر أرشفة المسرح الجزائري، جامعة وهران، مكتبة الرشاد للطباعة والنشر والتوزيع – الجزائر – 2012، ص 129.
5/ ينظر، هايل علي المذابي، “الأبعاد الجوهرية للقضية الفلسطينية في مسرحية شكسبير (تاجر البندقية) ومسرحية باكثير (شايلوك الجديد) ومسرحية المدني (حنبعل)”، مجلة المسرح العربي، ع 17، يناير 2015 الشارقة، ص114.
6/ هيثم يحيى الخواجة، محطات في المسرح العربي، دائرة الثقافة والاعلام، الشارقة، ط1، الإمارات العربية المتحدة 2011، ص:226.
7/ محمد عبازة، تطور الفعل المسرحي بتونس من النشأة إلى التأسيس، مركز النشر الجامعي، دار سحر للنشر، المعهد العالي للمسرح والموسيقى بالكاف، تونس، 2009، ص 362.
8/ ينظرمحمد عبد المنعم، الإخراج في مسرح الكباريه السياسي، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة 2012، ص32.
9/ ينظر، المرجع نفسه، صص 32 و33.
10/ ينظر أمين الزاوي، “الذاكرة ليست الماضي” مجلة الثقافة، منشورات وزارة الثقافة، عدد ممتاز 6/ 7، الجزائر 2005، ص 5.
11)*/ أسس ونوس التسييس في المسرح دون انخراطه في المسرح السياسي، مميزا بين التسميتين؛ السياسي نعت للمسرحية التي تتناول القضايا السياسية، بينما التسييس -بحسبه- يراه في سمتين أي جعل الجمهور ينخرط في الحراك السياسي وهو مسرح المشاركة، كما اعتبره كذلك لطرحه المشكلة السياسية من خلال قوانينها العميقة وعلاقاتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية والسياسية، ويحاول المسرحي استشفاف أفق تقدمي لحل هذه المشاكل مع توريط الجمهور في ذلك. تقول ماري إلياس في تسييس المسرح: ” ظهرت إشكالية في الثمانينيات والتسعينيات هي كثرة تسييس المسرح إلى درجة أنه قد تكون أحد أسباب تراجع المسرح فيما بعد… وهناك مسارح لم تدخل بهذه الإشكالية، فتطورت أكثر مثل المسرح التونسي…(” عبد الناصر حسين حسو، تسييس المسرح .. أحد الأسباب التي أدّت لانكساره ..، مجلة كواليس، العدد 33، يناير 2013، الإمارات العربية المتحدة الشارقة، ص:83.)
12/ فرحان بلبل، مراجعات في المسرح العربي منذ النشأة حتى اليوم، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2001، (موقع إلكتروني www.awu-dam.org)
13/ منصور عمايرة، فضاء المسرح العربي الهوية والتمايز، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، ط1، عمان الأردن 2014، ص:74.
14/ محمد عبازة، تطور الفعل المسرحي بتونس من النشأة إلى التأسيس، مرجع سابق، ص 173.
15 / عبد الرحمان بن زيدان، معنى الرؤية في المسرح العربي، دار الحرف للنشر والتوزيع، ط1، المغرب 2009، ص 191.
16/ راضي شحاذة راضي، “المسرح الفلسطيني في فلسطين 48 بين صراع البقاء وانفصام الهوية”، منشورات وزارة الثقافة الفلسطينية، ط1، رام الله 1998، ص 14.
17/ ينظر جازية فرقاني، تجليات التغريب في المسرح العربي، منشورات مخبر أرشفة المسرح الجزائري، جامعة وهران، مكتبة الرشاد للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، الجزائر 2012، ص 183.
18/ عبد اللطيف شما وآخرون (فراس الريموني)، المسرح الأردني، وجوه الواقع ومرايا الأحلام، نقد التجربة؛ همزة وصل2، الامارات العربية المتحدة 2015، ص11.
19/ جازية فرقاني، تجليات التغريب في المسرح العربي، مرجع سابق، ص 284.
20/ كاتب ياسين، فلسطين المغدورة، ص 09.
21/ ينظر نادر القنة، المسرح والتاريخ، (أسئلة القضية الفلسطينية في المسرحية العربية المعاصرة)، الملتقى السادس للمسرح العربي بالشارقة، 2008، ص 07.
22* / نور الدين عبة إعلامي وشاعر وكاتب ومسرحي جزائري من الكتاب الفرنكوفونيين الوازنين والذي لم ينل حظه مثل معاصريه من المبدعين المغتربين فلم يترجم له ولم تقرأ كتاباته ولا عرضت نصوصه المسرحية الشعرية. لذلك حرصت على ترجمة نصه الدسم “رحلة إلى القدس” الذي سيرى النور قريبا إن شاء الله.
23*/ أشار أحمد دوغان بخصوص فرقة مصطفى كاتب أنها شاركت بهذا المهرجان الشبابي بوفد ثقافي على رأسه “محمد خميني”وشارك في هذه الجولة العديد من الطلبة الجزائريين ومن المسرحيين والفنانين الذين ساهموا في الانطلاقة.. “ميسوم” المكلف بالقسم الموسيقي، وثريا، والحاج عمر، ويحيى بن مبروك، وسيد علي كويرات، ومصطفى كاتب (أحمد دوغان، الثورة الجزائرية في المسرح العربي، محافظة مهرجان المسرح المحترف، وزارة الثقافة، 2008، ص 28.)
24/ أحمد بيوض، المسرح الجزائري ، نشأته وتطوره، دار هزمة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر 2011، ص 148
25/ بسام العسلي، نهج الثورة الجزائرية، دار النفائس، بيروت 1986، ص 07.
26/ الجنيدي خليفة، من وحي الثورة الجزائري، بيروت 1963، ص 12.
27/ محمد العربي ولد خليفة، الثورة الجزائرية؛ معطيات وتحديات، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر 1991م، ص 06.
28/ ينظر، حفناوي بعلي، الثورة الجزائرية في المسرح العربي، الجزائر نموذجا، محافظة المهرجان الوطني للمسرح المحترف، وزارة الثقافة، الجزائر 2008، ص 141.
29/ حفناوي بعلي، الثورة الجزائرية في المسرح العربي، الجزائر نموذجا، مرجع سابق، ص 329، و330.
30/ ينظر، عبد اللطيف شما وآخرون (فراس الريموني)، المسرح الأردني، وجوه الواقع ومرايا الأحلام، مرجع سابق ص 11.
31/ ياسين النصير، توفيق البصري ومسرح الموت، مسرحية “ثورة الجزائر”، المسرح العربي المعاصر، عدد خاص، مجلة الأقلام، العدد 6، 1980م، ص 189.