هذا البحث قدم ضمن فعاليات الندوة الفكرية حول موضوع: “دور المسرح في ظل الأزمات العربية الراهنة” بالدورة 29 لمهرجان الأردن المسرحي (6 ـ 14 نوفمبر 2022)، وذلك ضمن اليوم الثاني بالجلسة الثانية ليوم الأربعاء 09 نوفمبر 2022،
****************
” شواهد التاريخ كثيرة على أن المسرح يستجيب دائما لدعوة الديمقراطية ؛ ويردد صيحاتها مدوية مؤثرة ؛ ثم لا يلبث أن يتأثر هو نفسه بكل حدث ديمقراطي “/ زكي طليمات
كلمة أولى ..
” بحث تاريخى لم يقع في يدي من قبل وجدته منشورا بمجلة الهلال – عدد نوفمبر 1940م – بقلم رائد المسرح العربي الفنان الكبير زكي طليمات – مؤسس المنهج العلمي لدراسة هذا الفن في مصر والبلاد العربية . أثار اهتمامى ودهشت لعمل علمى به رغم اهتمامى الشديد بتاريخ صاحبه ومنهجه وآثاره الفنية والثقافية رغم أنني حظيت بمعرفته شخصيا والجلوس منصتا إليه ومتحدثا سائلا مستطلعا فى قرب رائع حميم ما بين عام 1978 و 1979 أثناء صدور مجلة ” نادي المسرح ” عندما كنت مديرا لتحريرها .
وللحقيقة فقد أحنيت رأسي احتراما للبحث وصاحبه لما ساده من رصانة علمية ؛ وإن لم تدهشن بالطبع لغة الرائد العربية الراقية التي كنت قد تعودت عليها بقراءة ما اعتقدت أنه جميع كتاباته . وسوف أسمح لنفسي بنقل الفقرة التالية استشهادا على قيمته وتقديرا حيث يقول : ” شواهد التاريخ كثيرة على أن المسرح يستجيب دائما لدعوة الديمقراطية ؛ ويردد صيحاتها مدوية مؤثرة ؛ ثم لا يلبث أن يتأثر هو نفسه بكل حدث ديمقراطي ” . فهل سبق المسرح الديمقراطية إذن أم أنها سبقته ثم ربطت ازدهارها بازدهاره كما قدّر خسوفها له الخسوف كليا كان أم جزئيا ؟
الثابت تاريخيا أن اليونان القديمة هى التى أهدت الإنسانية هدايا ثلاث كانت بها غير مسبوقة في عطائها أولها الفلسفة التى هى ” حب الحكمة PHILPSOPHY ” تلك التي تعوّد العقل على طلب المعرفة وتعوّد الفكر الإنساني على التساؤل وتدفعه إلى النقد والتقليب والتمحيص فتحرره من الخمول وتعلّيه فوق محاولات الاستبعاد … وثانيها هو ” الديمقراطية DEMOCRACY ” – التي هي في أبسط تعريفاتها : تمثيل شعب نفسه بنفسه ” أي بالانتخاب الحر في إدارة شئونه – والتي هي صنيعة الفلسفة الإغريقية وثمرة ازدهارها التي علمت اليونانيين أن يقفوا من الكون كله – ظاهره وباطنه – موقفا جدليا ناقدا لا يقبل بالمسلمات حتى يناقشها . ولا تفرض عليه النتائج دون تسلسل منطقي يخلص بها .
وقد انعكس كل ذلك بتجسد مدهش غير مسبوق على موقفهم من الحاكم وموقفهم من السياسي بل وموقفهم من الآلهة نفسها حتى ليمكن القول إنهم قد صاغوها وتصوروها على الهيئة البشرية كي تكون في موضع النقد لها وموضع السخرية منها وموضع التمرد عليها بل وإدانتها والتمرد عليها كما تثبت مآسي يوربيديس وكوميديات أريستوفانيس Aristophanes مبدع الكوميديا اليوناني الأول :” السحب والضفادع والسلام وبرلمان النساء ” كيف انتقد الفلسفة السفسطائية وكيف مزق الفيلسوف سقراط سخرية وكيف هاجم دعاة الحرب وتجارها . و كيف انتقد فن يوربيديس المسرحي وهاجم شعره وقارنه بفن أيسخسيلوس وسوفوكليس منتقصا من شأن ” ما يدعي ” أنه تجديداته .
أما ” المسرح أو الدراما DRAMA ” – فهو ثالث الهبات الإغريقية إلى البشرية باستثناء النشأة التاريخية الأولى للمسرح كظاهرة مصرية فرعونية الأصل لم يقدّر لها الاستمرار حينما حُبست داخل المعبد باعتبارها شعيرة \ Rite RITUS دينية ضمن طقس تعبّدي cultic بصرف النظر عن تجليها أو تجسدها فنيا \ دراميا \ مسرحيا . الأمر الذي قصر مشاهدة الجزء الرئيس والأهم منه على للفرعون وكبير الكهنة وربما من هم في منزلته من الوزراء أو الحاشية . أما النتيجة فكانت موت طقس العبادة المسرحي هذا في مهده . مرة عندما منعته الديانة من تتنسم هواء الحياة خارج المعبد . ومرة أخرى عندما حُرِّمت ديانة الإله آمون فتوارت وطويت الظاهرة المسرحية في لفائف النسيان قبل أن يتاح لها أن تنتقل إلى الحياة العامة المعلنة فتتحول بممارسة الفرجة وتوالي العرض وسقوط القشرة الدينية عن الشعيرة إلى ” عمل فني دنيوي ” – حتى ولو ارتبط تقديمه بالمناسبة الدينية – لا يلبث أن تتناوله أيدي البشر من فنانين يحسّنون ويضيفون . ومشاهدون ينفعلون بها ويحتفلون فيعود تلقّيهم على العمل في شكل تغذية عكسية أو مرتدة feed back تسهم في دوامة واستمرار تطويره .لكن ما حرمت منه مصر الفرعونية ومسرحها ؛ حظيت به بلاد الإغريق إبان الحكم ” الديمقراطي ” للزعيم ” بريكليس ” في القرن الخامس قبل الميلاد الذي شهد ازدهار الظاهرة المسرحية بتخصيص مهرجان سنوي – شعبي وديني CULTIC – ثابت لها في عيد الحصاد ” اللينايا ” كي تعرض فيه روائع المؤلفين المسرحيين الكبار : سوفوكليس وأيسخيلوس ويوريبيديس وأريستوفان وغيرهم . وذلك بعد مرور فن الدراما بأطوار نموّ وتطور عضوي ضروري حتى أصبح لازمة من لوازم حياة الإغريقي وطقسا فنيا اجتماعيا ذا صبغة دينية – مرتبطة بحوليات موت إله الكرم والخمر والنشوة ” ديونيزيوس DIONISOS ” و بعثه وتجدد حياته – في إطار مشهد احتفالي ضخم ورائع تعهدته ديمقراطية أثينا بالرعاية والحفاوة والإحياء حتى أصبح معلما من معالمها . فلما انتهى عصر بريكليس وغربت شمس ديمقراطيته دخلت أثينا في عهد طغيان ” بيزستراتوس ” في أواخر القرن السادس قبل الميلاد ليكون للمسرح معه قصة أخرى . فقد تنبّه ذلك الطاغية إلى خطورة هذا الفن وارتباط ازدهاره بازدهار الديمقراطية التي لا يريدها وسيادة مناخ حرية التعبير الذي حاول إفساده بعد أن أضاءته أعمال الكتاب الأربعة الكبار ومن حذا حذوهم من فنانين آخرين . ” فعمد إلى تشجيعه كي يصرف الشعب عن التفكير في الأمور السياسية فاتخذ ضمن ما اتخذه لذلك من الوسائل ” فن التمثيل ” فكان أن أجرى عليه المال بسخاء لم يُعرف من قبل على المؤلفين والممثلين . وأقام الحفلات التمثيلية على نفقات الدولة بحال شغل معه الشعب بعض الشيء . ولكن الطاغية أخطأ التقدير إذ أراد أن يتخذ من ربيب الديمقراطية ؛ وهو المسرح ؛ قاتلا لها . وأن يصطنع من الحرس المدافع عنها سجّانا يكبلها بالقيود . وكان في شأنه هذا شأن من يتخذ من الضرغام بازة . فسرعان ما انقلب عليه التيار الذي أطلقه بعد أن تنبه الشعب إلى حريته المسلوبة مما يشاهده على المسرح . وسرعان ما تصيده الضرغام فيما تصيده . فكان أن انتبذه الشعب وأسلمه إلى المنفى البعيد هو وأسرته وأرجع النظام الديمقراطي إلى معقله ” .
ومن المعروف أن اليوناني القديم قد ابتكر لنفسه – في معتقده الديني – آلهة تخيلها على شكل وهيئة وأخلاق البشر مع إضفائه عليها صفات الأبدية أو الخلود والقوة وكلية القدرة وكلية العلم – OMNI SEINCE \ OMNI POTENCE وأيضا ETERNITY \ EWIKEIT . ومع التأكيد على وجود نقائص في طباعهم أكثر استفحالا وشدة منها لدى من يتحكمون في أقدارهم ومصائرهم من بني الإنسان . لكن هذه الأنسنة للآلهة أو التصور الذي طرحه الخيال الإنساني عليها – والتي اجتمعت في الكلمة اللاتينية ANTHROPOMORHPISMUS يمكن تفسيرها أيضا برغبة اليوناني القديم المسجلة في أساطيره – إلى التعامل مع آلهته المعبودة التي اخترعها أو تصورها تعاملا ندّياٍّ انتقاديا كما سبق وألمحنا . وهو ما يثبت تشبثه بالديمقراطية تشبثا جوهريا يفرضه حتى على الآلهة فيحاسبهم بمقتضى ما تتيحه له هذه الديمقراطية من حرية النقد وانطلاق التعبير الحر المحمل بالرفض لكثير من أفعالهم وأقدارهم – المسلطة جورا على بني البشر – رغم تفوقها عليهم ومعاناتهم منها . و كي تكون النتيجة هي إبداع ذلك الخيال الأسطوري الجميل الذي حفظته الأوديسة والإلياذة ملحمتا الإغريق الخالدتين . والذي لولا هذه ” الندّية ” – أو رغبة اليوناني فيها وسعيه إلى تحقيقها – لما نشأ الصراع الرئيس في فن المأساة CONFLICT – والذي هو أساس الدراما اليونانية في شقها المأساوي أي التراجيديا TRAGEDY وجوهرها ومحورها الذي لا تستقيم إلا به – والمتمثل في كونه صراعا بين الإنسان من جانب والقوى العلوية – الآلهة \ القدر \ Moira – من جانب آخر . وهو صراع لا تتيحه سوى ” ديمقراطية الفكر ” المتجانس المتماسك . ما دام العقل الإغريقي قد تخيل وضعية آلهته على هذه الصورة وتخيل وضعيته كإنسان في مقابلها . وما دام قد منحها بخياله كل تلك القدرة ووضع نفسه أمامها عاجزا لكنه مقاوم . ضعيفا غير أنه متحدٍّ . فانيا غير أنه قادر على الرفض ومبادر دوما إلى الاعتراض . ما الذي جعل المسرح – الذي هو فن – ديمقراطيا رغم كون الديمقراطية سياسة أي منهجا في الحكم ؟ ورغم أن ” أرض ” المسرح أو رقعته محدودة . بينما أرض الديمقراطية ورقعتها شاسعة بامتداد أي وطن ؛ إلا أن فريقا من بشر هنا يجتمعون في ” فعل حياة متمثل على المسرح ” مثلما يجتمع شعب في فعل حياة ” حقيقي ” على الأرض . وقد قام المعلم الأول أرسطو بحل هذه المعضلة بنظريته التي رأت في الدراما ” محاكاة لفعل الحياة .. أي لأفعال البشر ” كما سنذكر بشيئ من التفصيل لاحقا . ولنبدأ بما سبق وأشرنا إليه من ذلك الخيال البشري المؤنسن للآلهة . والذي صاغها على تلك الصورة البشرية – وخلع عليها إمكانات عليا خارقة لا يملكها الفانون الذين ابتدعوها – فأدخلها في صراعاتهم وجعلها تحب وتبغض . وتحسد وتحقد . وتشره وتطمع . وتكذب وتسرق . وتخون وتخلص .وتثق وتغدر متمتعة بكل ما يتمتع بها بنو البشر من مزايا وبكل ما يدمغهم من نقائص ونزوات تدخلهم في صراعات معهم بل مع أبيهم زيوس ZEUS كبير الآلهة بل ومع أمهم وإخوتهم كذلك . وبسبب من هذه الديمقراطية أباح الإغريقي لخياله الدخول في المواجهة مع الآلهة الظالمة غير آبه بالعقاب الذي حلّ على إخوته من البشر المتميزين – مثل بروميثيوس – كنتيجة لتجرّئه على تحديهم بسرقة النار التي أرادوا التمتع بها وحدهم رغم وثوقه من تعرضه لأشد العقاب حين تركوا نسرا هائلا ينهش من كبده . أو مثل ” سيزيف ” المتمرد الذي حكموا عليه بأن يظل يرفع الصخرة الثقيلة إلى قمة الجبل وبمجرد وصوله للقمة تهوي ساقطة فيعيد رفعها من جديد . ولولا ذلك الخيال المساوي بينهم وبين تلك الآلهة لما أبدعت أساطيرهم ولا مسرحياتهم الخالدة التي استلهمت منها ومن موقف الإنسان المجسد لعظمته – في صراعه معهم وتحديه لهم ومواجهته لهم وهم الخالدون الذين لا يخلون من نقائص ؛ وهو ” الفاني ” الذي لا تنقصه البطولة حتى ولو كان في تلك المواجهة نهايته وتدميره تماما . وقد قبل بذلك ما داموا آلهة وما دام هو بشرا. وما دام ذلك الدين الذي اعتنقوه وعبروا عنه في أساطيرهم هو مجرد اجتهاد لعقلهم البشري قبل أن تصلهم أديان السماء . وهو ما صورته أسطورة الملك أوديب وجسدته دراميا – بشكل أروع – مسرحية سوفوكليس الخالدة أوديب ملكا Oedipus Tyrannous \ Oedipus Rex .
أما مسرحية أيسخيلوس الشهيرة ” الضارعات ” فتعتبر أول تجليات الديمقراطية ” الأثينية ” تاريخيا على المسرح حيث هربت الأميرات المصريات الخمسين إلى بلاد اليونان في أول تصوير يقدمه كاتب مسرحي للجوء سياسي في العالم . كي يطلبن من الملك اليوناني أن يقبلهن – في بلده الديمقراطي كلاجئات – فرارا من إرادة عمهن الملك في تزويجهن لأبنائه قسرا . ويأتيهن الرد ” الديمقراطي ” أيضا بأن الملك سوف يعرض أمرهن على البرلمان كي يقرر ما يراه في هذا الشأن .
ثم يأتي الكاتب المسرحي العبقري سوفوكليس من بعد معاصره أيسخيلوس – وأثناء حياته – فيؤلف دراما ” أنتيجونا ” مجسدا بها مبدأ الديمقراطية حينما يتصارع أخواها ولدا الملك أوديب – بعد فقأه لعينيه وانتحار زوجته \ أمه وأمهما جوكاستا عقب انكشاف خطيئتهما الناتجة عن لعنة الآلهة للأجداد . وعن تحقيق أوديب لها بسبب سقطته المأساوية المتمثلة في رذيلة التطرف أو تجاوز الحد HUBRIS – لكي تضع مبدأ الديمقراطية موضع الاختبار و موضع التأكيد معا . فبعد أن حكم أتيوكليس ابن أوديب أثينا سبع سنوات إذا به يرفض أن يتنازل لشقيقه عن العرش كما اتفقا على ذلك . وبدلا من أن يلجأ الأخ المعتدى على حقه إلى البرلمان اليوناني إذا به يستعين بجيش أجنبي يحارب به شقيقه ومن معه من جنود وطنهما مع ما في ذلك من خطيئة كبرى . وفي الحرب يسقط الشقيقان قتلى بضربتين متبادلتين . فما يكون من خالهما ” كريون ” الذي أصبح وصيّا على العرش سوى أن يأمر بدفن الأخ الثاني الذي دافع عن وطنه – حتى ولو كان مغتصبا لحقّ أخيه في العرش – بينما يحرم الآخر الغازي من حقه في أن يواري جثته التراب . دون أن يراعي حرمة الموت ولا حق الميتين الشرعي في الدفن . لكن شقيقتهما أنتيجونا ترفض ذلك وتتمرد على أوامره بل وتتحداه هو وقانون الأرض \ الوضعي لتنفيذ قانون السماء الذي يقضي بدفن الموتى ولو كانوا من الأعداء . وينذرها كريون ويهددها بأنه سوف يدفنها حية لو قامت بمعاودة تحديه ودفن الأخ الذي استقوى بالأجنبي على وطنه . لكنها لا تمتثل وتعاود دفنه فتكون النتيجة أن يأمر بدفنها حية معه هي الأخرى . وبذلك يضيف نفسه إلى قائمة المخطئين : الأول الذي غزى بلده بدلا من أن يلجأ إلى البرلمان \ ممثل الشعب وممثل الديمقراطية فيعرض قضيته عليه ويمتثل لما يصدره من حكم بشأنها . والثاني هو شقيقته التي تصرفت وحدها فتحدّت الحاكم ونفذّت قرارها حتى ولو كان إنسانيا ودينيا وصحيحا – دون أن تلجأ للسلطة الديمقراطية كي تقضي في الأمر . والثالث هو كريون نفسه – خالهم – الحاكم الذي اشتط في تطبيق قانون الدولة \ الوضعي فكسر به قانون السماء دون أن يحيل الأمر هو الآخر مثلهما تماما على البرلمان . أي دون أن يأبه لرأي الشعب فيطبق الديمقراطية .
تلك كانت مجرد شواهد على تفشي الديمقراطية في عقل المسرح اليوناني ووجدانه وممارساته حتى تطور فبلغ ما بلغه من رقي وعظمة جسدتها المأساة Tragedy في أبدع صورها وتجلياتها – ” أوديب وأنتيجونا وإيفيجينيا وميديا – حين صورت صراع الإنسان مع الكون وأظهرت عظمته رغم أنه في عرف دينها مسير محكوم الإرادة فاقد الاختيار . لكن تأثيرها في المتلقي أو أثرها الجمالي المسمى ب ” التطهير CATHARSIS ” والذي هو كما عرفه أرسطو ” تخليص نفس الإنسان من المشاعر الضارة بإثارة انفعالي الخوف والشفقة لدى مشاهدة سقوط البطل التراجيدي سقوطا كارثيا ” . ذلك البطل الذي رغم تميزه بالنشأة والموهبة بحيث يصبح الأفضل والأرقى والأكثر قيمة بين أقرانه من البشر ؛ يرتكب فعلا هائلا مزلزلا يمثل سقطة شنيعة .. لا عن لوم في طباعه أو خسة . بل نتيجة لعيب في شخصيته ولصدع مأسوي بها TRAGIC CRACKناتج عن كبره وغطرسته واعتداده بنفسه اعتدادا متجاوزا للحد الذي لا يليق بالبشر الفانين HUBRIS \ HYBRIS . حتى ليظن بذلك أنه قد ارتقى إلى مصاف الآلهة وطاولهم أو أصبح معادلا لهم ! الأمر الذي لا بد وأن يعرضه للعقاب الهائل المدمر كيما يعتدل ميزان الكون ويعود إلى الاستواء . ولكي يحدث هذا السقوط أثره فينا ؛ لا بد للبطل المأساوي هذا أن لا يكون خيّرا خيرا مطلقا ولا أن يكون شريرا شرّا محضا . لأن الخير المطلق يبعد به عن أن يكون إنسانا كبقية الناس . كما أن الشر المحض يدخله في زمرة الأشرار فلا نأسى لعقابه ولا نحزن عليه ولا نتعاطف معه . وهكذا يتحتم أن يكون هذا البطل – الإنسان – في منزلة بين المنزلتين كي تنتابنا الشفقة على ما تعرض له من عقاب مدمر . وفي نفس الوقت كي نخشى سطوة القدر ونخافه حين نتيقن من كوننا في غير منجى من بأسه . ولنأخذ من سقوط البطل \ الإنسان المتميز عنا موعظة ودرسا واعتبارا فلا نقول عن أحد ” إنه عاش سعيدا حتى يموت ” كما رددت الجوقة في أوديب سوفوكليس مستخلصة لنا العبرة من صميم الفاجعة .
ويلاحظ أن هذا الأثر الجمالي أو ” التطهير CATHARSIS ” بالمأساة – الذي أشرنا إليه – ذو تأثير ديمقراطي كامل تماما بعدم تفريقه بين متلقٍّ فقير ومشاهد غنيّ . بل يسوّى في ما يحدثه أو يثيره في نفسيهما من مشاعر وما يخرجه أو يؤدي إليه من انفعالات بين كافة المتلقين وعلى حد سواء باعتبار كونهم بشرا فانين وليس أكثر. كما أن فن الملهاة – الكوميديا COMEDY تحدث أثرها الجمالي أيضا مع الجميع بنفس الآليات دون تمييز حين تجعلنا ” نضحك على المشوّه أو الناقص من أفعال البشر دون إيلام أو إيذاء ” فنشعر بتمايزنا عن البخيل والغبي والجاهل والمتردد والأحمق وضيق الأفق والمنافق والمزواج والشره وزئر النساء والمتصابي والمتعالم ذكرا كان أو أنثى دون تفرقة ..وعلى سبيل المثال . وفي ذلك تحقيق لديمقراطية التلقي وديمقراطية التأثير التي لا يقدر على تحقيقها سوى الدراما التي هي أساس فن المسرح .
شاهد آخر على ديمقراطية المسرح يتمثل في عنصر أساسي من عناصر الدراما هو ” الحوار Dialogue ” . حيث لا يتصور أن تظل شخصية واحدة أو ممثل واحد متحدثا طيلة العرض بينما يظل من أمامه – فردا كان أو مجموعة – صامتا سوى لضرورة فنية قصدها الكاتب . وبديهي أن هذا التبادل في الحوار والتقاسم في الحديث لا يتم دون انتظار لقول ” الآخر ” والاستماع إليه ثم مناقشته أو التعليق عليه أو حتى تفنيد رأيه أو التهجم عليه . كما لا يصح ولا يصبح منطقيا بغير انتباه إلى ما يقول واستيعاب – أو عدم استيعاب – ما يحدث وما ينتج تبعا لذل من فهم ويقود إلى اتخاذ موقف ناتج عن رد الفعل . وبمثل ذلك التوازن بين الأخذ والرد في الحوار لا يتمتع فن آخر سوى المسرح . لأنه في ” فن السرد \ الرواية ” لا يتحدث سوى الراوي الذي قد يكون هو القاص أو إحدى شخصيات العمل . لكن قانون ” الأخذ والرد ” الذي هو أساس المحاورة ومحور الجدل لا يحظى بفاعليته المطلقة إلا في النص الدرامي حين يقرأ أو حين يشاهد مجسدا على منصة المسرح . أما ما قد يثار من تساؤلات عن انفراد ممثل واحد – أو شخصية واحدة – بالحديث في ” المونودراما mono- drama – فتلك حالة خاصة من حالات الكتابة والعرض يتحدث فيها الشخص إلى نفسه وكأنه يسمح لهواجسه بالانعتاق في فضفضة أو مناجاة لغائب. أو يتوجه إلى الآخرين – الحضور أو المتخيلين في ذهنه بوحا – بالحديث المباشر . دون أن ينتقص ذلك من ” ديمقراطية العرض ” بأي قدر . ذلك لأن ” العرض المسرحي performance – ديمقراطي بذاته وفي ذاته . أما تفسير ذلك فمتعلق بالعناصر المشاركة في تكوينه من : نص \ دراما و ممثلين و سينوجرافيا sinography\ Szenografie – مناظر وتكوينات حركية وإضاءة ومؤثرات ضوئية – ومهمات مسرحية accessories وملابس أو أزياء محددة الطراز والطابع وموسيقى ومؤثرات صوتية . وكيف ينبغي أن تحقق هذه العناصر توازنها الخاص فيما بينها بعمل المخرج متضامنا مع مصمم السينوجرافيا ومجموعة الممثلين ومن هم خلف الستار من المسئولين عن الإدارة المسرحية . وبحيث لا يطغى عنصر على عنصر آخر فلا يستبقه أو يتأخر عنه . مثلما ينبغي أن يتحقق لخشبة المسرح توازنها الخاص بتوزيع الكتل توزيعا جماليا متسقا وفق قانون التوازن بطريقة تقليدية هندسية متكافئة symmetry أو بأي أسلوب جمالي آخر يحققه .
كما أن مبدأ الديمقراطية يتحقق في عملية توزيع الأدوار وإسنادها إلى الممثلين بناء على لياقتهم الجسدية والفنية وعلى كفاءتهم ومناسبتهم للعب الشخصية دون اي سبب أو دافع آخر وإلا تعرض العمل للفشل قبل أن يبدأ . يقوم المخرج بذلك بحيادية علمية مطلقة هو مسئول عنها أولا وآخرا . ومن تقاليد ديمقراطية المسرح أن وجهة نظر المخرج – الذي هو – مؤلف العرض والمايسترو وقائد العمل – يجب أن تحترم . لكن من تقاليده الديمقراطية أيضا – أثناء التدريبات – أن تتم المناقشة وأن يستمع كل من في الفرقة أو المجموعة إلى رأي الآخر وتحليلاته ثم يتفق على رؤية جماعية ووجهة نظر موحدة وتفسير واحد ملزم وإلا تبعثر الفهم واختلطت التلقيات وضاع الخطاب المسرحي discourse theatrical واضطرب التأثير الجمالي أو كفت فعاليته المرجوة عن الحدوث . كما تمثل لحظة ” المشاهدة الجماعية الموحدة ” في العرض المسرحي لحظة ” ديمقراطية جمعية ” لا يلعب فيها تميز الأماكن أو فئات المقاعد أي دور في ” عملية الاستقبال أو التلقي الجمعي common reception process . أو في تحديد نوعية استجابات الجمهور audience responses أو تأثره وانفعالاته . حيث أن كل ذلك متروك للعمل الفني ودرجة جودته وقوة تأثيره وقدرته على الإقناع . كما أن ” تقاليد دخول المسرح ” نفسها إنما هي تجسيد كامل للديمقراطية في تنويع آخر عليها . فحينما تغلق أبواب الدخول لا ينبغي أن يسمح لأحد مهما كانت مكانته أو قدره أن يدلف إلى داخل قاعة العرض ولا أن يخرج منها بعد أن يرفع أو يسدل الستار لأن في ذلك احترام للتقاليد المرعية وتحقيقا لمبدأ المساواة في حضرة العرض المسرحي .
ولنتذكر جميعا حادثة تاريخية هامة تعرضت لها ملكة انجلترا عندما جاءت متأخرة لمشاهدة عرضا لإحدى مسرحيات جورج برنارد شو فرفض دخولها ومنعت ولم تعترض . وكان ذلك احتراما وتثبيتا لديمقراطية المسرح وللديمقراطية الإنجليزية كذلك . فهل يحيا المسرح إذن ويزدهر سوى بحياة الديمقراطية وازدهارها ؟ وهل يصيبه ما يصيبه من وهن وما يقعده عن فعله الأصلي ورسالته الخالدة التي هي تحقيق قيم الحق والخير والجمال سوى غياب الديمقراطية وصمت الصوت الآخر المعارض أو تغييبه أو احتقاره ؟ .. في المسرح ينبغي أن يسمع الممثل تلك السيدة الصماء الجالسة في آخر التياترو لأن ذلك حقها . كما أن حق المسرح هو أن تتاح له فرصة الوصول إلى آخر بقعة صغيرة من الوطن . وحقه أيضا أن يفهم كما ينبغي وأن يؤدى كما يجب وأن لا يخلط ثمينه بغثّه . وأن يبعد عنه الجهلة والمدعون وأنصاف الموهوبين كما تُبعد الهوام . وأن لا يوكل أمره لغير من يعرفون قدره وحصلوا علمه ومعرفته . وأعطنى مسرحا أعطك شعبا . ذلك هو فصل الخطاب .
أسامة أبوطالب
القاهرة 5-10-2022م