لسميحة أيوب هيبة لا توصف؛ هيأتُها تخطف الأنظار، وهالتها تُغلّف المكان الذي تخطو فيه، أما صوتها المسرحي، فيمتلك قدرة موسيقية على اختراق الآذان بموازير منضبطة زمنياً، ومنغمة إيقاعياً، تستحوذ على انتباه الحضور دون الحاجة إلى ميكرفون.
استطاعت سميحة أيوب أن تُسيطر على خشبة المسرح لعقود طويلة، تنقلت فيها بين أبرز الشخصيات، مثل: أنتيجون، فيدر، إليكترا، رابعة العدوية، سوسو، بلانش وغيرهن، وأسرت جمهوراً موزاييكياً من معظم الأقطار العربية والغربية، منطلقة من القاهرة، إلى قرطاج وبغداد ودمشق، باتجاه أهم دور العرض في باريس. وكتبت عنها الصحافة العربية والغربية قصائد شعر.
استقبلها القادة والمسؤولون، واحتفى بها السفراء، وتمنى لقاءها كل فنان يُدرك قيمة منجزها، وكل مثقف يعي حجم وعيها، الذي تفتق وازدهر بارتباطها باثنين من أبرز الشخصيات الفنية في الوطن العربي، والمحسوبة على النخب المثقفة والوطنية؛ الفنان محمود مرسي، والكاتب سعد الدين وهبة.
بكل تلك الصفات الاستثنائية، وذلك الألق الذي عُرفت به سيدة المسرح العربي الأولى.. شاء القدر الجميل أن أحظى بوجبة عشاء فاخر من يديها!؟
الوجهة الأولى..
حين وصلنا إلى القاهرة هذا الصيف، وبعد انقضاء فوضى السفر وتبعاته، كان منزل الجميلة سميحة أيوب وجهتنا الأولى، تلبية لدعوتها الكريمة، حيث قضينا في ضيافتها ساعات من المتعة التي ما كان لها أن تنقضي لولا حرصنا على عدم إجهادها. ورغم أنها كانت الزيارة الأولى بالنسبة لي، في حين أنها تكررت كثيراً بالنسبة لعلاء، إلا أنني شعرتُ بألفة كبيرة في بيتها المغزول بالدروع والأوسمة والصور، التي تنقلنا بينها رفقة أطفالنا، نتفحص تاريخها العريق، وذكريات كل قطعة منها.
بعد أن ودعتنا بابتسامة ووعد بزيارة أخرى، خرجنا من منزلها باتجاه شوارع الزمالك حيث تقطن، نكرر نوادرها، ونتناقش حول ذكرياتها بإعجاب وتعجب. وما إن وصلنا لمنزلنا حتى ظلت ابنتنا سماء تبحث عن تاريخها الفني في فضاء الانترنت، وتقرأ علينا المعلومات – التي نعرفها مسبقاً – وهي في حالة ذهول، وقبل أن تنام تساءلت: كيف لإنسانة بكل هذا التاريخ أن تكون لطيفة إلى هذا الحد!؟
بعد أسبوع من تلك الزيارة، سافرنا إلى الإسكندرية لحضور عرض صديقنا المخرج الراقي جداً عمرو قابيل، وزوجته الجميلة صاحبة الصوت الملائكي آية شوشة، حيث استمتعنا بأجواء مسرحيته (حكايات أهل مصر) التي جعلتني أتحسر على حال بنوكنا، مقارنة بما فعله البنك الأهلي في سبيل العرض، ولذلك مقال خاص حتماً. وبينما نحن نقضي النهار في شوارع الاسكندرية، نتنقل بالترام من محطة الرمل إلى سان ستيفانو مستمتعين بالنسمة الجميلة في عز الصيف، جاءنا الاتصال من الغالية سميحة، ما إن سمعت علاء يقول: “حبيبتي سموحة” حتى وقفتُ أنظر له بابتسامة طفل ينتظر مفاجأة، وبالفعل وجدتهُ يمد يده بالهاتف..توترت، وأردتُ حينها أن أجري، لكن ما إن سمعت صوتها حتى ذاب ارتباكي مع أول جملة: “إنتِ دخلتي قلبي من أول ما شفتك يا سعداء، وأنا حبيتك”.. لم تترك لي فرصة لأحلق في فضاء الإسكندرية، أو أغني بأعلى صوت وأنا أعتلي منارتها الأثرية، فقبل أن أقول لها: “وأنا بحبك من زمان”، أردفتْ ذات الصوت الإذاعي الرصين وسألتني: تحبوا تاكلوا إيه..؟!
حاولتُ التملص لمعرفتي بأنها للتو قد خرجت من (دور تعب)، لكن كرمها أبى ذلك، فأخبرتُها: “شوربة عدس.. بنحبها كلنا، وكفاية كده والله، أصلنا بنتعشى حاجة بسيطة، ونحب ننام خفيف”، أكملتْ وكأنها لم تسمعني: بتحبوا البامية؟ رددتُ:”ومن لا يفعل؟”. انتهت المكالمة بعد أن اتفقنا على الساعة التاسعة، وبقيتُ أردد على مسامع علاء بسعادة كبيرة: تخيل يا علاء.. سميحة أيوب قالت لي “حبيتك”!
عشاء لا يُنسى
جاء اليوم الموعود، وصلنا بعد أن تأخرنا عن موعدنا نصف ساعة، على غير عادتنا، لكن الإقفال المفاجئ لشارع محمد مظهر في الزمالك، جعل علاء يستعير كل قدرات (شوماخر) ليخرجنا من تلك الورطة.
كانت تجلس في البلكون رفقة صديقتها العزيزة ( مشيرة )، فقررنا البقاء في المكان ذاته، حيث أجواء النيل بأصوات أغاني مراكبه، والهواء الذي (يرد الروح). نزل الطبق الأول فالثاني إلى أن وصلنا للتاسع (مسقعة، بامية، لحم، بانية، معكرونة، رقاق، كشك، شوربة عدس،رز، بالإضافة للمقبلات).
كنتُ خجلة جداً من حفاوتها، وخجلتُ أكثر بعد أن أخبرتنا مساعدتها (أمل): “المدام مطبختش من زمان”، كانت لحظة جميلة أن أعرف بأن احتفائها بنا جعلها تطهو بنفسها بعض الأطباق، خاصة تلك التي أعجبتنا: المسقعة، طاجن البامية، وشوربة العدس التي أهوى تذوقها بكل الوصفات والطرق، فكانت مختلفة ومميزة جداً من يد (سموحة) التي طهتها بوصفة خاصة، تشبه ما تذوقته في المطابخ الهندية إلى حد ما، وبطريقة مختلفة عما تذوقته لدى أحبتي المصريين من قبل، وحين أخبرتني بسرها.. أدركتُ سبب إعجابي بها.
بعد أن تجاوزت الساعة الواحدة صباحاً ودعناها رغم إصرارها علينا بالبقاء، لكن رغبتنا بأن ترتاح بعد عناء اليوم جعلنا نغادر رغم متعة رفقتها، فخرجتُ من منزلها مزهوة، أتساءل: هل بالفعل تناولتُ شوربة عدس من يد سميحة أيوب!؟ لقد فعلت بنا كما يحدث في الأفلام الأجنبية؛ حين يريد شاباً أن يسلب قلب فتاته يطهو لها.
ونزولا عند رغبة سماء التي تعشق شوارع مصر- الزمالك تحديداً – ربما لأنها من مواليد القاهرة، ظللنا نمشي مستمتعين بأجواء قاهرية لا تنام، ما إن وصلنا إلى كوبري قصر النيل، التقطنا الصور وعدنا إلى البيت وأنا – شخصياً – أكاد لا أصدق أن عشائي كان من يد سيدة المسرح العربي الأولى.
بجانب هيبتها وهالتها.. كنا رفقة إنسانة جميلة، صادقة، صريحة، عذبة المعشر، تُدرك إلى أي درجة أن الكلمة الطيبة حسنة، دون أن تفقدها صراحتها المعهودة، سعدتُ كثيراً وأنا أراها تُسهب في التعبير عن محبتها لعلاء، مرددة: “أصل اللي ربنا بيحبه بيحبب خلقه فيه”، ولعل من الصدف الجميلة التي ترددها سميحة دائما، أن علاء وابنها يشتركان في الاسم ذاته، لكن تلك المحبة لم تمنعها من لوم علاء بشدة، بين حين وآخر، لأنه لم يكتب رواية أخرى بعد روايته الأولى.
سميحة ليست مجرد نجمة تمتلك الخشبة بكواليسها، سميحة إنسانة تمتلك القلوب والعقول، طوال جلستها معنا لم تكن تلتفت للهاتف، بل لم أكن أراه يتوسطنا كما يفعل معظم النجوم، بل والكثير من الناس الذين لا يفارقون أجهزتهم للحظة، كان اهتمامها بضيوفها من منطلق تقديرها لهم أولاً، ومن منطلق محبتها لهم ثانياً، بل كانت مهتمة حتى بأولادنا، أمطرت سماء بكلمات جميلة لا تزال عالقة في ذاكرتها، وتساءلت بعتب عن سبب عدم حضور الفارس للعشاء، فلم تغفر لنا ذلك، حتى حين أخبرناها بأننا لاحظنا أنه يسعل في صباح ذلك اليوم وخشينا منه على صحتها.
مع سميحة أيوب لا تتساءل عن أجواء الجلسة، فأنت أمام إمرأة مثقفة، على جميع الأصعدة، مفعمة بحب الحياة، تسرد ذكرياتها وهي مستمتعة دون أن تغرق فيها، تعشق الماضي دون أن تنعزل عن الواقع، سلبت قلوبنا بحكاياتها وذاكرتها الجميلة مع عمالقة الفن والأدب بتفاصيل بعضها خطير، وبعضها يجعلنا سوية نذوب من الضحك.
تحدثنا معا عن عشرات الأعمال، والأسرار التي أفصحت عن بعضها بعد تساؤلات علاء التي كانت ترد عليها بها بخفة دم مغلفة بالذكاء. إلى أن توقفنا عند العمل الذي أعشقه بصوتها، وتحدثت عنه في إحدى لقاءاتي مع الزميل العزيز عباس الحايك، إحدى روائع الإذاعة المصرية “عربة اسمها الرغبة” لتينيسي ويليامز، أخبرتُها كيف أن صوتها استطاع رسم البعد النفسي لشخصية (بلانش)، بتفاصيلها، بآلامها وأحلامها، وأنني بكيتُ كثيراً وأنا أستمع لصوتها وهي تتساءل في نهاية المسرحية عما يحدث حين حان وقت نقلها لمستشفى الأمراض العقلية، وكم جاءت الكلمات عميقة بصوتها وهي تقول: “اعتدت دائما على حنان الغرباء”، أخبرتها كم كنت ولازلتُ مأخوذة بصوت صلاح منصور، فحكت بحب عن ذكرياتها معه وتفاصيل هذا النص العظيم الذي أخرجه المبدع جداً محمود مرسي، أحد نجومي المفضلين أيضاً.
حكاية لا يعرفها أحد!
بقيت حكاية واحدة لم أحكها للغالية سميحة أيوب، وستقرأها اليوم كما يفعل القراء، أن لقائي الأول بها كان في عام 1998، حين كنتُ طالبة في الفرقة الثانية في قسم النقد والأدب المسرحي في المعهد العالي للفنون المسرحية في الكويت، كان المعهد حينها يحتفي بالكاتب الكبير سعد الدين وهبة، وقد قدم طلبة التمثيل عدة مشاهد مسرحية من أعماله، أذكر من بينهم زميلتنا الفنانة سماح، بإخراج أستاذ التمثيل في المعهد حينها د. علي فوزي، الذي درسني مادة مناهج إخراج، كتبتُ حينها مقالا عن الأمسية وأجوائها، نُشر في مجلة الكويت ليصبح أول مقال يُنشر لي في حياتي بعد أن أعجب به علاء الجابر، الذي كان صحافياً في جريدة الوطن، ولم نكن قد اقترنا بعد، وأذكر تماماً أنني حصلت على أجر مقابل المقال (50د.ك) ليكون أول أجر لي في حياتي العملية.
ومن ضمن أجواء الاحتفاء بوهبة، حلت سميحة أيوب ضيفة على الأمسية لعدة أيام، لا أذكر إن كانت حينها مدعوة من المجلس الوطني لمناسبة أخرى، والمعهد استغل وجودها، أم أن المعهد دعاها بشكل خاص من أجل الأمسية! لكن ما أذكره أنها تابعت الاحتفالية، بالإضافة إلى مشاركتها في ندوة صباحية خاصة بالطلبة، للحديث عن علاقتها بوهبة من جانب، ومشوارها المسرحي من جانب آخر.
بعد مجموعة من أسئلة الطلبة التي جاء معظمها عن طبيعة علاقتها بالزوج سعد الدين وهبة، وأعمالها المستقبلية، قررتُ أن أسألها سؤالاً خاصاً بإحدى شخصياته المسرحية، فكانت تلك أول لحظة إحراج في حياتي، سببها سميحة أيوب، حين سألتها: هل كان سعد الدين وهبة يقصد بهذه الشخصية الله عز وجل!؟
نظرت لي بتفحص، ابتسمت، وهزت كتفيها، وقالت (حسب ما أذكر): إنتِ شايفة إيه، كل ما أذكره لحظتها، أنني عدتُ أدراجي لأجلس بجانب زملائي، حيث شعرتُ بالإحراج لأنها – باعتقادي – لم تُعر سؤالي أي اهتمام، وما زاد من ألمي، أن أحد زملائي البحرينيين أخذ ينصحني عن كيفية طرح السؤال، مما أكد لي الإحراج الذي وقعت به.
ولكن، ولأن الله لم يُرد لقلب مجتهد أن يُكسر ذلك الصباح، لمحتني سميحة أيوب وهي في طريقها إلى باب مسرح حمد الرجيب رفقة العميد والأساتذة، كنت أقف مع مجموعة من الطلبة ننتظر أن يخرج الأساتذة والضيوف لنغادر القاعة، نظرتْ لي، ابتسمت وأشارت بإصبعها تجاهي بمعنى (آه منك) وقالت بصوت مسموع: “بس شاطرة”. نظرت لزملائي بفخر، وخرجتُ من القاعة، وأنا (مَرْضِيّة)، كما يقولون في مصر.
بعد سنوات قليلة من ذلك الموقف، أدركتُ أنها علمتني أول درس في النقد.. ألا تسأل المبدع (أو من ينوب عنه) ماذا تعني!؟.. بل قدّم تأويلك كما تراه، فجملتها (إنتِ شايفة إيه!؟) أكدت متعة التأويل.
من يدري في تلك اللحظة، أنني وبعد ربع قرن من ذلك اليوم سأجلس أمامها في بلكون بيتها الشرح، لتحكي لي عن ذكرياتها مع عظماء المخرجين والنجوم، بعد وجبة عشاء عامرة بأطباق طهتها لنا بيديها الجميلتين… فمع سميحة أيوب تدرك أنك أمام إمرأة مثقفة قارئة، تمتلك وعياً أهلها لتحليل الشخصيات البشرية بعمق، ومنحها قدرة عظيمة على أن تغفر لتلك الشخصيات هفواتها حتى وإن كانت أكثر ممن تضرر من تلك الهفوات.. كم أنتِ جميلة يا موحة/سموحة.. كما يحلو لأحبتها أن يلقبوها، وكم أنا محظوظة بك.. فشكراً لعلاء لأنه منحني مساحة في هذه العلاقة الجميلة.. وشكرا لرواية “هولندا لا تمطر رطبا” لأنها أول تعارف حقيقي بينهما، وسبب لتلك المحبة، وشكرا لله الذي يرسم أقدارنا بكل هذا الجمال والإنصاف.
** د. سعداء الدعاس/ كاتبة وناقدة من الكويت