مدينة الزبير حاضنة المربد، مدينة جميلة ساحرة تقع في الجنوب الغربي لمحافظة البصرة، المدينة التي ولدت من رحم الصحراء، وسميت بأسماء عدة مثل (وادي السباع، ووادي النساء) وغيرها من الاسماء، حتى استقرت فيما بعد على (قضاء الزبير)، الذي ارتبط بسوق المربد*وكان له علامة، هذا السوق الذي كان يحتضن الشعر والتاريخ والتجارة، هذا السوق الذي كانت تقام به مبارزات في شعر النقائض بين الفرزدق وجرير، من هنا بدأت الثقافة، ومن هنا انطلق العلم والمعرفة، ومن هنا ولد الشعراء، ومن هنا تعلموا الشعراء فنون الشعر والادب.
وهنا كان ميلاد اديب وشاعر، تغذى على قافيات الشعراء، وسار على درب ملئ بالأضواء، والمساحيق، ولعب الادوار، هنا ولد الفنان والاديب حسن زبون العنزي([1]) عام 1941، والذي نشأ وترعرع في محلة الزهيرية في الزبير، وقد التصق بجدران الطين التي شيدت بها هذه المحلة العريقة، والتصق باسمها لذي لم يفارقه في طفولته وفي تعليمة، فقد دخل ليتعلم الحرف الاول في مدرسة الزبير الابتدائية، وأكمل دراسته في متوسطة الزبير، ولعدم وجود مدرسة ثانوية ولرغبته بإكمال دراسته فقد غادر محلته لأول مرة ليكمل دراسته الثانوية في ثانوية الملك فيصل الثاني في مركز مدينة البصرة، في منطقة نظران، بعدها دخل معهد المعلمين ليحصل على شهادة الدبلوم فقد تخرج منه معلما عام 1960، وقد عاد الى محل صباه وايامه الجميلة وعشقه الذي لا ينقطع، عندما عين معلما في مدرسة طلحة الابتدائية، والذي استمر فيها قرابة 25 عاما.
لقد بدا العنزي حياته الفنية عندما كان طالبا في المدرسة الابتدائية، حينما طلب منه عام1952 المعلم داود الحمود- احد معلمي مدرسة طلحة- مشاركة زملائه في التمثيلية التاريخية، والتي عرضت فيما بعد في ساحة المدرسة وسط الجمهور ، حيث لم تكن هناك خشبة مسرح داخل المدرسة خاصة بالأعمال المسرحية.
هنا كانت البداية التي زرعت حب المسرح في قلبه وعقله، ولكن الظروف الاقتصادية والاجتماعية لم تسمح له بتطوير نفسه من خلال عمله المستمر في هذا المفصل الجميل لكنه ظل شغله الشاغل، حتى جاءت الفرصة لينتقل الى مدينة البصرة ليكمل دراسته الثانوية ، وهنا تغير كل شيء ، افكاره وطموحاته وتخطيطه للمستقبل ، حيث شاهد هنا الاستاذ محمود عبدالوهاب وزكي الجابر الذين كانا لهما الدور المهم في تفعيل الحركة المسرحية لمدينة البصرة، لكونهما معلمين للغة العربية ويمتلكون امكانيات لم يكن العنزي يمتلكها، فهو لم يتمكن من الاشتراك معهم بسبب عدم قدرتيه المادية التي تمكنه من البقاء يوما كاملا في مدينة البصرة للعمل معهم في المسرحيات التي يقدمونها على قاعة المدرسة او خارجها، لكن هوسه في المسرح لم يتركه مكتوف الايدي فقد تمكن من اقناع زملاءه لتقديم عرضا مسرحيا، وكانت المشكلة الاولى التي تواجههم العنصر النسوي، لكن تمكنوا من حله بعد اقناع احد زملاءهم بلعب هذه الشخصية بعد ان يلبسوه (باروكة) وبعض المكياج، فطرح عليهم فكرة مسرحية (المجانين) التي اعدها العنزي عن مسرحة (كرنفال الاشباح)، وافق الجميع وتبنى الاستاذ باقر عبد الواحد اخراجها، المسرحية تتحدث عن طبيب يتمكن من اعادة الروح للموتى، وهم (الجنرال الذي لعب دوره الفنان فيصل حسن، والجندي، والعاشق وحبيبته، والصياد والسلطان،….)، فيبدأ بالجنرال الذي يوافق بشرط ان يذهب الى جبهة اخرى، اما الجندي فريض العودة، لأنه لا يجدها مجدية مازال سيقتل مرة اخرى، وبعده رفض الاخرون تلقي العلاج لعد جدوى العودة للحياة مازال هناك موت اخر، وقد عرضت المسرحية على قاعة التربية -عتبة بن غزوان- ، التي شارك فيها (فيصل حسن، وفالح حسن، وخليفة السعد… واخرون)، كما كان العنزي حينها يقتنص الفرصة لمشاهدة الافلام السينمائية التي شغلت فكرة كثيرا واصبح مدمنا على متابعتها لدرجة انه حفظ اغلب اسماء الممثلين، وكان يقلد تمثيلهم امام زملائه، حيث كان يرتدي ملابس (الكاوبوي) التي يرتديها الممثلين، والتي يشتريها من العربات التي تبيع الملابس المستعملة، تطورت رغبته واندفاعة للسينما بعدها الى المطالعة وحب التعرف عليها من خلال ما يقرؤه من الصحف والمجلات التي تنشر عن السينما من اجل اكتساب المعرفة والتثقيف، حيث كان يشتري المجلات من مكتبة الشرق، والذي تعرف من خلال قراءتها على حياة الممثلين وكل ما يخص حياتهم الخاصة، وكان يحلم ان يكون يوما احد هؤلاء الممثلين المشهورين.
لم يمنعه قصر اليد من عدم مزاولة حبه وشغفة للمسرح، فقد بنى بنفسه مسرحا قبالة قصر ابو سعود- في منطقة ما يعرف بساحة باريس- في غابات اثل الزبير، مستغلا السفرات المدرسية والعائلية ليقدم لهم نتاجاته المسرحية والادبية، ونشر رسالته ، فقدم في مسرحة هذا مسرحيات شكسبير، وارثرملر، وصلاح عبد الصبور، وسعد الدين ونوس، والسيد الشوربجي، وفي الهواء الطلق([2]).
وقد منح له القدر فرصة كبير عندمااختاره مدير تربية البصرة ليكون معلما في احد مدارس الزبير عندما كان احد الطلبة المجتهدين في الثانوية، وكانت من نصيبه مدرسة الشعبية، التي تسلم فيها تدريس طلبة المرحلة الثانية، استثمر العنزي الفرصة جيدا وكتب نص مسرحي تناول فيه قضية الفلاح، من اجل تعريف الطلبة بواقعهم المعيشي فهو يقول:(انا اعمل مسرحيات لكي أحث التلاميذ لمعرفة واقعهم، انا أكتب لتثقيف الناس)([3])، نعم انه هدف المسرح السامي، والنبيل.
اما الانطلاقة الحقيقية للعنزي فكانت عام 1958، العام الذي كتب فيه اول نص مسرحي بعنوان(حلم يتحقق)، واخرجه لصالح المدرسة التي كان يعمل بها، احداث المسرحية تدورحول هارون الرشيد الذي يحلم بان هناك اشرار يدخلون بغداد، ناس اغراب وجوههم كالقردة ويبدئون بحرقها، يستيقظ في الصباح ليأمر بجلب عراف لتفسير حلمه، فيقول له العراف ان الحلم سيتحقق بالفعل لكن بغداد لم تتأثر بشرهم، وذلك لظهور المخلص الذي سوف ينقذها من بين ايديهم، فيطلب هارون من مفسر الاحلام هذا ان يريه المنقذ، يقول العنزي:( من اجل تنفيذ هذه الخدعة طلبت من بعض زملائي الذين يعملون معي ان ينزلوا صورة (الرئيس عبد الكريم قاسم) من سقف المسرح ، والتي عمدت على ربطها في خيط، يصاحب نزول الصورة رش مادة (البودرة) وبكثافة- من اجل ايهام الحضور انها نزلت من بين الغيوم- وبالفعل تمكنت من تنفيذ خطتي الاخراجية بنجاح ، وقد انبهر الحضور بذلك.
بعد التخرج تعين العنزي في مدرسة طلحة بن الزبير، وهنا كانت الفرصة اوسع واكبر للعمل المسرحي، حيث المدينة وجمهورها الذي كان مواظبا على حضور جميع الفعاليات التي تقام داخل المدينة، وله صلاحيات اوسع لكونه احد اعضاء الهيئة التعليمية، مما دفعة لكتابة نص مسرحي اخر بعنوان (أشعب والبخيل)، وليخرجه بنفسه، حيث تمكن من بناء خشبة مسرح في ساحة المدرسة، من الرحلات والسبورات، وقد حضر العرض محافظ البصرة الذي امر ببناء قاعة مسرح، بعد ان اعجب بالعرض، ومن الطرائف التي حدثت اثناء العرض يقول العنزي ( كنت قد طلبت من شخصية (علاية) ان تجلس بين الجمهور، وعند مناداتها من قبل الممثل (جودي) تصعد على خشبة المسرح، لكن ما حدث ان الجمهور النسوي الذي كانت شخصية (علاية) جالسة معهم، منعوها من النهوض والذهاب لخشبة المسرح، لاعتقادهم بتطفلها على العرض، وحتى تدخل بعد ذلك حمايات المحافظ، والذي كان الاخير حاضرا لمشاهدة العرض المسرحي، مما اضطرني للنزول للجمهور واقناعهم بانها احد الشخصيات في العرض.
لم تنتهي معانات العنزي لهذا الحد، فقد استمرت حتى مع العروض الاخرى، ففي عرض مسرحية( الصياد والسلطان) عندما منع اهل احد الممثلات التي كانت تعمل معنا اثناء العرض؛ يقول العنزي، مما اضطرني لتوزيع حوارها على الممثلين، ولكن وبعد تدخل الخيرين في قاعة العرض رجعت الممثلة بشرط ان لا تعود مرة ثانية.
لقد كتب العنزي واخرج العديد من الاعمال المسرحية، وفي مناسبات عده من هذه المسرحيات مسرحية ((انا السبب، وابو الدبس، واشعب والبخيل، ولن اضيع، واعد مسرحية المعطف التي قدمتها (فرقة اصدقاء المسرح) عام 1971 …. ومسرحيات أخرى)). كما كتب واخرج العديد من المسرحيات التربوية والمدرسية منها (علاء الدين والمصباح السحري ، والصياد والسلطان التي عرضت عام 1980 والذي لحن اغنياتها الاستاذ هاشم يوسف ومسرحيات اخرى…..).
لن يتوقف العنزي عند هذا الحد فراح باتجاه الادب ،وكتب العديد من قصص الاطفال الهادفة وحاز على عدة جوائز من خلال مشاركته في المسابقات الادبية، والتي ابتدئها بقصة (الثعلب ذو القبعة عام 1969). كما كتب في التراث ونشر العديد من البحوث في الصحف والمجلات.
لقد رحل الاديب والفنان حسن العنزي يوم 29/12/ 2021 وترك لنا ارثا كبير من الذكريات الجميلة عن المسرح وتراث مدينة الزبير، كما ترك لنا العديد من النصوص المسرحية، وقصص الاطفال وروايات لم تطبع بعد.
الإحـــالات:
*المربد : وهو مكان يجتمع فيه الشعراء في البصرة ، وهوموقف الابل وحبسها، وهو فضاء وراء البيوت، وهو المكان الذي يبسط فيه التمر ويجفف،وقد يبعد هذا السوق عن مدينة البصرة ثلاث اميال.
[1]) نزح اجداده من قبيلة عنزه الى العراق ، وسكنوا في اعالي الفرات(البادية الشمالية)ثم جلا ابناء جدة (غدير الخزام) وبظروف عشائرية قاهرة الى جنوب العراق ثم استقروا في مدينة الزبير في الاربعينات من القرن العشرين(مزهر الكعبي واخرون، الرحيل والمحطات قيد الانتظار، البصرة، 1922 ،ص63)
[2]) عادل على، الاديب الراحل حسن زبون العنزي، 12/2/2022.
[3]) مقابلة مصورة اجراها الباحث هشام شبر، you tube