في يوم الاثنين الموافق للسابع عشر من تشرين الأول عام 2011؛ أقامت كلية الفنون الجميلة/ جامعة البصرة؛ حفلا تكريميا لمعلم ومربي الأجيال (الأستاذ الدكتور سامي عبد الحميد). وترحيبا بمقدمه الكريم وتشريفه جامعة البصرة بحضوره المبارك البهي نظمت قصيدة ألقيتها بين يديه؛ فلمثل هذا العملاق الشامخ تنظم الأشعار؛ ولمثله تنشد الأناشيد؛ وكان عنوان القصيدة (رجل بعشرة رجال)؛ لأنني هكذا أراه؛ لذا آثرت أن أبدأ مقالتي هذه بها؛ وأستوحي منها ما أريد أن أدونه من حقائق ساطعة عن رجل من رجالات العراق الخالدين: [ رجلٌ بعشرة رجال]
تحية
عرفان لمعلم الأجيال
الأستاذ
الدكتور سامي عبد الحميد
في حضرة قامةٍ شامخةٍ ..شماء
يقف المرءُ عاجزاً .. عن الأداءِ والمقالْ
فماذا يقالْ؟!
بل ماذا يمكن أن يقالْ؟؟
عن معلم الأجيال السامي عبد الحميـــــــــد
*******************
رجلٌ بعشرةِ رجالْ
مخرجٌ متفردٌ
مثلٌ كبيرْ
باحثٌ أكاديميٌ
مترجمٌ مُجيدْ تدريسيٌ لامعْ .. تربويٌ رحيمْ …ناقدٌ مكينْ
أداريٌ ناجحْ .. مبتكر للأفكارِ…مربٍ للأجيالْ
هذا أقلُ ما يقالْ… في معلم الأجيالْ
السامي عبد الحميـــــــــد
*******************
هو المسرحُ … هو الفنُ …. هو الحديثْ
هو (ليرُ) الذي خسفَ المسرحَ
فشهقَ كلُ منْ في القاعة متأوهينْ
هو الشريعة ُ ، الرهنُ ، الخرابة ُ
النخلة ُ هو الجيرانُ
هو الصحونُ الطائرة ُ … هو
(جودو) المنتظرينْ
هو من قاد (هاملتَ) … في مضاربِ البدو ِ
هو من أحتفلَ بالسودِ المهرجينْ
هو من أمسك القردَ الكثيفَ من شعفتهِ
وأودعهُ السجنَ هو السجانُ ..
هو السجينْ هذا أقلُ ما يقالْ ….
في معلمِ الأجيالْ السامي عبد الحميد
***************************
هو الصوتُ الهادرُ المجلجلُ
المنظرُ …المبتكرُ … المبدعُ
هو المجربُ … المكتشفُ … الرائي
الرائي
الرصينْ
فهذا أقلُ ما يقـالْ … في معلم الأجيالْ
السامي عبد الحميــــــــــد.
وحين أقول إنه رجل بعشرة رجال فأني أعني بأنه رجلٌ يعمل بطاقة عشرة رجال وبعطاء عشرة رجال في كل موضع وأوان.
1- (السامي عبد الحميد) كان مخرجا متفردا في أسلوبه الانتقائي للأعمال التي يعمد الى إخراجها؛ وتراه يضع في كل عمل يختاره بصمة متفردة تحمل توقيعه ورؤيته الخاصة. وعلى سبيل المثال أورد انموذجا لبصمة فريدة كنت أحد شهودها؛ ففي عام 1985 وعندما كانت فرقة مسرح الفني الحديث تجري آخر تمريناتها لعرض مسرحية (الرهن) تأليف طيب الذكر: عبد الأمير شمخي؛ وإخراج أستاذنا (سامي عبد الحميد)؛ وبعد أن أنجز المشتركون في العرض تمرنين من الأداء المتقن الذي قدموا فيه أقصى طاقاتهم؛ خرج أستاذنا مسرعا؛ بادياً عليه الانزعاج دون أن يعطي أي ملاحظة؛ كما أعتدنا نحن الممثلون والفنيون تلقيها منه بعد إنهاء أي تجربة للأداء؛ وعندما حاولت السؤال عما أزعجه ظنا مني؛ بأني ربما أكون سببا في هذا الانزعاج بوصفي كنت أمثل أحدى الشخصيات الرئيسية في المسرحية وفقتد التركيز في أحدى اللحظات ؛ أجاب أن الأمر لا يتعلق بأحد ؛ وإنما يتعلق به وحده؛ ليأتي في اليوم التالي ويقدم مقترحا جماليا وصورة إخراجية متفردة رفعت من مستوى المسرحية وجعلتها تحصد خمسة جوائز أولى في الموسم المسرحي لعام 1985. وسأورد هذا المقترح الجمالي وما رافقه من حيثيات في موضع لاحق.
2– (السامي عبد الحميد) كان ممثلا كبيرا سواء في المسرح أو السينما أو التلفزيون؛ فمن منا لم يبهر في أدائه لدور (الملك لير) أو لم يُعجب بإدائه لشخصية (الشاعر المتنبي) على المسرح؛ ومن منا ينسى أداءه لشخصية (الحلاق) في فيلم (الأسوار)؛ ومن منا لا يتذكر إداءه لدور (أبو عطية) العربنجي في مسلسل (الذئب وعيون المدينة) وجزؤه الثاني (النسر وعيون المدينة). وهناك أمثلة كثيرة أخرى لا يسع المجال لذكرها؛ كان فيها أداءه التمثيلي يفوق التصور؛ ويعُد دروسا في فن التمثيل.
3- (السامي عبد الحميد) باحث أكاديمي رصين؛ نشر الكثير من البحوث التي غدت مصدرا لعشرات الرسائل والأطاريح العلمية؛ ولربما يُعد كتابيه (العرب في مسرح شكسبير) و (المسرح العراقي في مائة عام) من الكتب التي لا يمكن أن يستغني عن قراءتهما أو الاطلاع عليهما أي مهتم بالشأن الثقافي بشكل عام؛ أو أي مهتم بالشأن المسرحي بشكل خاص؛ بل أنهما يعدان من أمهات الكتب التي لا يمكن لأي مكتبة الاستغناء عنهما. وذكرنا لهذين الكاتبين لا يعني عدم أهمية بحوثه وتنظيراته الأخرى؛ بل ذكرنا ذلك بوصفهما نموذجين مهمين للبحوث الأكاديمية الرصينة.
4- (السامي عبد الحميد) مترجم مُجيد؛ فقد قدم للمكتبة العربية ترجمات لجواهر من الكتب التي غدت مراجع مهمة للدارسين والفنانين على حد سواء؛ ومنها على سبيل المثال لا الحصر: ترجماته لكتب (أسس الإخراج المسرحي) تأليف: ألكسندر دين؛ و (المخرج فنانا) لمؤلفيه: أر. أج. أونيل، و أن. أم. بورتز؛ وكتاب (الاكتشافات المسرحية في القرن العشرين) الذي جاءت ترجمته بتصرف عن كتاب (قرن الابتكار) لمؤلفيه: أوسكار بروكيت وروبرت فندلاي؛ وغيرها كثير؛ ومن باب الحقيقة والأمانة التاريخية أقول: أن أستاذنا الجليل (سامي عبد الحميد) عندما كان يلقي علينا محاضرات في (مادة الاكتشافات المسرحية) في مرحلة الماجستير؛ فإنه كان يستحضر معه عدة مصادر باللغة الإنكليزية؛ يقتبس منها مقاطع يترجمها فوريا أثناء إلقاءه المحاضرة علينا.
5– (السامي عبد الحميد) كان تدريسيا لامعا؛ ولا أحسب أن أياً من تلامذته ممن درسوا على يديه على مدار عشرات السنين التي مارس فيها – أستاذنا الجليل – التدريس؛ لا يدين بالفضل له ويذكر له كنوز المعرفة والمعلومات العلمية والفنية التي تلقاها منه؛ وأجزم – قاطعا – بأن لا أحد ممن تتلمذوا على يديه –بخاصة من طلبة الدراسات العليا – يستطيع أن ينكر أنه لو لا (سامي عبد الحميد)، لما عرف نظريات المسرح ومبتكراته الحديثة.
6- (السامي عبد الحميد) تربوي رحيم؛ فلا أذكر وأنا الذي تتلمذت على يديه ورافقته في الإدارة والتدريس والعمل المشترك في فرقة المسرح الفني الحديث طوال أكثر من ربع قرن من الزمن؛ أن وجدت أستاذنا عاقب أحدا أو عنف أحدا؛ وعندما كان يستاء من عمل ما أو من تصرف ما؛ أو يغضب لأمر ما؛ فأشهد أنه كان يترك المكان ولا يغُضب أحدا أو يوجه كلمة تجرح أحدا.
7– (السامي عبد الحميد) كان ناقدا متمكنا وحصيفا؛ وليس من باب الاكتشاف أو التفرد أن أقول: أن جميع العاملين في العروض المسرحية وجميع متلقي تلك العروض؛ ينتظرون القول الفصل والحكم النقدي الأصوب والشهادة النهائية؛ من أستاذنا (سامي عبد الحميد) بعد حضوره لمشاهدة أي عرض مسرحي؛ فلا قول يعلو قوله؛ ولا حكم أصوب من حكمه ولا شهادة أعلى من شهادته؛ بل أن بعض تعليقاته عن العروض أصبحت أيقونات بلاغية يتغنى بها المبدعون؛ ويعدونها جوائز كبرى لإبداعهم؛ ومنها ما قاله بعد نهاية عرض مسرحية (هسهسات) تأليف وإخراج الفنان البصري الدكتور ماهر الكتيباني عندما عرضت المسرحية؛ ضمن فعاليات إيام بغداد المسرحية عام 2013 ؛ حين نهض واقفا ومقاطعا لتحية الممثلين وتصفيق المتفرجين لينادي معلناً بأعلى صوته الجهوري : (ممتاز، ممتاز، هذا مسرح مبتكر؛ ممتاز، ممتاز، ممتاز) ؛ ومنها ما قاله بعد نهاية العرض الأول لمسرحية (الصدى) تأليف: كاتب هذه السطور وإخراج الفنان القدير: عزيز خيون ؛ عام 1984عندما وقف أمام قاعة (منتدى المسرح) التي كانت ضمن بناية مسرح الرشيد والتي تضم مقر (الفرقة القومية للتمثيل) وقال بأعلى صوته وبلهجة عراقية (أهنا أكو مسرح .. وهناك ماكو مسرح) مشيرا في العبارة الأولى الى قاعة المنتدى؛ ومشيرا في العبارة الثانية الى مقر (الفرقة القومية للتمثيل) التي كانت تعد الفرقة المسرحية الرسمية للدولة العراقية.
8- (السامي عبد الحميد) عمل سنين طوال؛ معاونا لعمادة (أكاديمية الفنون الجميلة) جامعة بغداد التي تعرف الآن بـ(كلية الفنون الجميلة)، وكان مكلفا بإدارة الشؤون الإدارية والعلمية وشؤون الطلبة؛ وهي إدارات ثلاث ينتدب لها في العادة ثلاثة معاونين؛ وفي أحيان أخرى ينتدب لها أثنان في أقل تقدير؛ لكن (السامي) كان ينهض بإعباء الإدارات الثلاث سوية ؛ وبحكم اختياره لي عام 1984 ؛ لإدارة (وحدة التعليم المستمر) التي استحدثت في العام المذكور؛ ولاكتظاظ مكاتب العمادة بالإدارات المختلفة؛ فأنه أمر أن يوضع لي مكتب في الغرفة التي يوجد بها مكتبه كمعاون عميد ؛ وكان ذلك بالنسبة لي فخر ما بعده فخر؛ وكانت الفترة الزمنية التي جاورت فيها مكتب أستاذي ومثالي الأعلى مصدرا ثريا تعلمت منه الكثير عن كيفية إدارة الشؤون العلمية والإدارية وشؤون الطلبة؛ التي نفعتني أكبر النفع كخبرات إدارية وعلمية عندما كُلفت فيما بعد لإدارة مثل تلك الشؤون؛ ومما لفت نظري أثناء مراقبتي لكيفية إدارة أستاذي (السامي)؛ أنه كان قادرا على إدارة المهمات الثلاث – بمهارة عالية وسرعة قصوى ـ ولم يكن يؤجل أي شأن أو طلب أو معاملة الى يوم آخر؛ ومن الطريف أن أذكر أحد الأيام التي وجدت فيها ثلاث مراجعين أمامه أحدهم تدريسي والثاني موظف والثالث طالب ؛ وهم يكلمونه سوية ملحين حول مشكلات مختلفة؛ ولم تكد تمر دقيقتان حتى أجاب الثلاثة إجابات ثلاثة مقنعة؛ غادر فيها الثلاثة ممتنين شاكرين؛ ولم أستطع حتى يومنا هذا أن أفسر كيف أستطاع أن يفهم الثلاثة وهم يتكلمون سوية؟! وكيف أستطاع أن يركز على مشكلاتهم الثلاثة في وقت واحد؟!! وكيف وجد لهم حلولا ثلاثة مختلفة ومقنعة؟!!! وكيف قضي الأمر كله في دقيقتين فقط؟!!!!؛ ذلك ما لا يقدر عليه إلا (السامي عبد الحميد).
9- (السامي عبد الحميد) مبتكر ومجدد على جميع الصعد والمستويات؛ ولا يدخل مجالا أو يخوض تجربة إبداعية أو يحضر مؤتمرا علميا؛ أو ندوة نقاشية أو مناقشة أكاديمية لأطروحة علمية؛ ما لم تجد له فيها لمسة مجددة ومبتكرة؛ وهو من دعاة التجريب والتجديد؛ ويشجع الجميع على ذلك؛ لذا فأننا كطلاب له؛ كنا ننتظر منه كل يوم وكل ساعة ما هو فكرة مبتكرة تسمو بالإبداع وتحرك الخيال وتوسع ملكات التفكير لدينا وتحيلنا الى فضاءات جديدة.
10. أما الرجل العاشر الذي يسكن (السامي عبد الحميد)؛ فإنه مربي أجيال فذ بلا منازع؛ فالعشرات من الأجيال التي تتلمذت على يده تتشرف وتفتخر بأنه درسها سنوات متعددة؛ ونهلت من علمه الكثير وتربت على يديه مكتسبة روح الأيمان بالمعرفة والتعلم الأكاديمي الرصين؛ والعمل المتفاني المخلص؛ فقد أعطى كل الأجيال التي تتلمذت على يديه دروسا في الجدية والحرص والإخلاص والأمانة والالتزام؛ وعدم المداهنة والمجاملة على حساب الحقيقة ؛ لأنه كان الحقيقة بعينها؛ التي تشرفنا نحن الذين تربينا على يديه؛ أنه علمنا كيف نكتشف الحقيقة وكيف نراها وكيف نعمل بها؛ لأنه بحق (السامي عبد الحميد). وللحديث صلة.