صدر للباحث في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا (الصديق الصادقي العماري)، كتاب بعنوان: ديناميات الثقافة في المسرح (من المثاقفة إلى التناسج الثقافي). عن منشورات مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية بمدينة فاس، المملكة المغربية. الكتاب عبارة عن رؤية سوسيوأنثروبولوجية للظاهرة المسرحية، خاصة ما يتعلق بالجانب الثقافي منها، باعتبار الثقافة عابرة للقارات والحضارات. فالباحث الصديق الصادقي العماري، مدير ورئيس تحرير مجلة كراسات تربوية العلمية المحكمة، وهو عضو في لجن علمية لمجلات وطنية ودلية، وباحث في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا كتخصص رسمي علمي أكاديمي، ومنفتح على تخصصات أخرى في دراسته الأكاديمية منها الفلسفة واللغة العربية.
تقديم
عرفت الثقافة مكانة جد متميزة في الأبحاث والدراسات على اختلاف أنواعها وتوجهاتها وتخصصاتها، فالإنسان بطبعه كائن اجتماعي وثقافي في الآن نفسه، وبهذا يتميز بالتفاعل عبر علاقات اجتماعية متعددة مع الآخر المشابه أو المختلف، مما يؤدي إلى ثراء الخبرة والتجربة التي تساعد على التجديد والتحول في طريقة التفكير ونمط العيش وأسلوب الحياة، وخلال هذا التفاعل يتم إكساب العديد من النماذج والأشكال الثقافية بين الطرفين، الأمر الذي يدفعنا للقول بعدم وجود ثقافة خالصة، وإنما هناك تداخل وتقاطع وتفاعل بين الثقافات.
لكل ثقافة هوية، ولكل هوية جوهـر تعبر عنه خصوصيات متفـردة، وتنبثـق منه قيم سامية ومثـل عليا، هي عنوان الأصالة والعراقة اللتين هما القواعد الراسخة للثقافة، والقواسم المشـركة بـين الثقافات الإنسانية جميعا، مها تكن سماتها وقسماتها وطوابعها، ومها تتعدد مصادرها ومنابعها وروافدها. كما أن لكل أمة ثقافة تعبر عن كينونتهـا، وتعكس طبيعتها، وتسجل عطاءاتها المتراكمة عبر التاريخ الطويل، فتجعل منها أمة ذات خصوصيات تميزها عن الأمم الأخرى. وكذلك هي الثقافة في تميزها عن الثقافات السائدة، سواء في الزمن الواحد، أو في أزمنة متطاولة، وإن كانت تأخذ عنها، وتقتبس منها، وتتلاقح معها، فتتقارب، وتتحاور، وتتفاعل بطرق متباينة، فتكتسب قوة في المناعة، وقدرة على التناغم مع البيئة، وعلى التكيف مع المحيط الإنساني العام، وتلك هي طبيعة الثقافة لدى أي أمة من الأمم، وفي كل عصر من العصور.
أما بخصوص المسرح، منذ نشأته سعى إلى مد جسور التواصل بين الثقافات الإنسانية، في أفق التأسيس لمسرح كوني يروم العالمية ويختزل الخصوصية، أو صنع مسرح عالمي ينطق بلغات متعددة، وذلك نتيجة التبادلات الثقافية والحضارية بين الشعوب، التي تجاوزت الحدود الجغرافية وحتى الثقافية. قد أصبح المسرح مجالا وفضاء لتفاعل وتداخل مختلف الفرجات الإنسانية، وأرضية للتبادل والتأثير والتأثر، مما جعل منه ظاهرة ثقافية بامتياز، وبهذا، يصبح مجالا للانفتاح على الآخر المختلف والمغاير، لذلك، “ليس ثمة من مسرح مكتف بذاته كليا. وهذا دليل على أن المسرح من حيث هو أب للفنون، هو في حقيقته جنس هجنة بامتياز، إنه مجمع الفنون كلها، ومعبر لتفاعلها وتناسجها”[1].
وفي إطار ما يعرف ب “مسرح المثاقفة” عرفت الفرجات والتعبيرات الثقافية تحولات عميقة وشائكة، حيث تم اقتطاع أجزاء من ثقافة معينة وإدخالها في ثقافة أخرى مخالفة، مما نتج عنه إشكالات عويصة من قبيل التخوف على الهوية الوطنية، وهيمنة ثقافة على أخرى، إضافة إلى التبعية الثقافية، وهو الأمر الذي كرس المركزية الغربية من خلال إغناء ثقافتها على حساب ثقافة الآخر المختلف ووصفها بالتخلف والجمود وكل أشكال الدونية، غير أن “ارتهان مصطلح “مسرح المثاقفة”بأشكال معينة من الممارسات المسرحية المتمركزة قد أحدث التباسات أثناء تداوله في أوساط البحث المسرحي الدولي، إذ أصبح يرمز إلى مثاقفة مهيمنة ومفروضة أكثر منها تلقائية ومتكافئة”[2].
مما نتج عنه ضرورة تفكيك مسرح المثاقفة ومعرفة خلفياته وأبعاده من قبل العديد من النقاد والباحثين، من بين هؤلاء باتريس بافيس الذي يقر بضرورة تجاوز خطاب المركزية الأوربية الغاشمة، إذ يقول في هذا الصدد :”إذا كان هناك ثمة خطاب يجب أن نسعى لتجاوزه، فهو التمركز الأوربي المنكفئ الذي يجعل من أوربا حصنا منيعا ضدا على أي شكل من أشكال المثاقفة مع آخرها….لقد كان استشراف آفاق المثاقفة خارج مدار المركزية الأوربية رهانا استراتيجيا لحل مشاكل المسرح المعاصر”[3].
وفي هذا السياق، الذي ارتبط بضرورة التفكير في سبل استشرافية من أجل خلق جسور التفاعل والتواصل بين الثقافات بطريقة متكافئة، نتج مشروع “التناسج الثقافي”في محاولة من طرف العديد من الباحثين لخلق تصور نظري حوله في المسرح.فإذا كانت الأشكال التعبيرية تنتقل من ثقافة إلى أخرى بطريقة مباشرة وغير مباشرة، وإذا كانت هذه الأشكال تتداخل فيما بينها عبر عمليات التأثير والتأثر المتبادلة، وإذا كان المسرح من الفنون التي تشكل فضاء بَيْنِيا لهذه الأشكال التعبيرية الفرجوية، فما مفهوم الثقافة عامة؟ وما الجانب الإجرائي للثقافة داخل الاتجاهات النظرية السوسيولوجية والأنثروبولوجية؟ وما علاقتها بالهوية والمثاقفة؟ وما “التناسج الثقافي”؟ وما السبيل للتحول من المثاقفة إلى التناسج الثقافي في المسرح؟ وهل يمكن رصده في تجارب مسرحية غربية وعربية؟ وكيف يمكن فهم طريقة وأسلوب وآليات إنتاج وإعادة إنتاج الظاهرة المسرحية التي نعتبرها ثقافية، من خلال النص الدرامي، والسين
الإحــالات:
[1] إريكا فيشر ليشته، من مسرح المثاقفة إلى تناسج ثقافات الفرجة، ترجمة وتقديم: خالد أمين، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، سلسلة 22، ط1، طنجة- المغرب،2016، ص 14.
[2] إريكا فيشر ليشته، المرجع السابق، ص15.
[3] خالد أمين، المسرح ودراسات الفرجة، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، سلسلة 14، ط1، طنجة-المغرب، 2011، ص 22.
2 Comments
حليمة مرواني
دائما يفاجئنا موقع الفرجة بالجديد الممتع، وهذه المرة إنتاج علمي رصين ضمن المشاريع الكبرى التي تتوسل من المسرح التفكيك والتفتيت لشرح آليات اشتغاله ضمن الثقافة وخاصة ضمن السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا بعيدا عن الصياغة الألية للمسرح كممارسة ركحية. فعلا أبدع الباحث ويبدع كما عهدناه دائما كمتتبعين وباحثين في مجال العلوم الإنسانية. فالقضية عميقة ليس كما يعتقدها البعض، في نظري، فالكتاب يعيدنا لتفتيت التراث الأصيل لتجاوز المثافة الغامشة والإطلال على مشروع بحثي ينتصر له العديد من الباحثين اليوم أمثال إريكا فيشر ليتشيه. بالتوفيق للباحث الصادقي العماري في مشاريعه الكبيرة من داخل السوسيولوجيا
بوحسينة الخليفة
السلام عليكم ورحمة الله. كتاب رائع يندرج ضمن المشاريع البحثية المسرحية التجريبية الطليعية، شكرا لكم أستاذي الصديق الصادقي العماري، ومن دون شك سوف يكون بمقاربة سوسيولوجية وأنثروبولوجية للظاهرة المسرحية. نحييكم من الجزائر الشقيقة.