عن شكسبير وبروك، و”مانكان” كيليطو (*)
• “المسرح ورشة مفتوحة”،
• منشورات مسرح الشامات، 2021
*
تنخرط موضوعات هذا الكتاب ضمن سجلات كتابية متنوعة تتراوح بين أفكار وذكريات، ونصوص سردية، وشذرات سيرية محررة في سياقات تاريخية مختلفة. وبالتالي فالأمر لا يتعلق فقط بالمسرح كورشة مفتوحة بالمعنى التقني كما في نص العنوان، ولكن كذلك بجوارات المسرح من فضاءات وأجناس وذكريات… وذلك بالضبط ما يقصده المؤلف حين يشير، في المقدمة، إلى أن عمل المخرج يتحدد في ثلاث مساحات تتقاطع وتتفاعل لإعطاء المعنى للعمل الفني:
– مساحة المسرح (المعرفة بتاريخ المسرح، وتقنياته وأسرار تخصصاته)،
– مساحة المعرفة (المعرفة بالتاريخ والفكر والمجتمع، والانفتاح على المدارك والمعارف بأنواعها وتعددها )،
– ثم مساحة الذات (البصمة الذاتية والرؤية الشخصية للعالم، وللوجود).
ربما أستبق مآلات التحليل حين أؤكد أن تنوع السجلات والسياقات يجعلني أقر بأن الكتاب بمثابة ورقة الطريق التي تدلنا على العلبة التي يفكر من داخلها الضعيف، المتميز بحضوره كمبدع، وكباحث يعتبر الإبداع عملا يتجلى يوميا في رحابة الكتابة والبحث، من قصص ودراسات، وإخراج المسرحيات والأفلام. في الفن هوية ووجودا…
تلك سيرة الضعيف.
ولأن الأمر لا يتعلق هنا بتلخيص، فالأمر يقترح فقط تعريف القارىء بهذا الإصدار، على أساس أن تتاح لنا فرصة محاورة نقدية ليس هذا مجالها الآن.
يشمل الكتابة عشرين موضوعا موزعا بشكل حر. لذا أقترح إعادة التبويب موزعا على ثلاثة سجلات:
ـ سجل النصوص السردية، أو المحكيات بلغة النقد الحديثة، حيث يتجاور الواقع (الضعيف من شخصياته مثلا) مع أفق تخييلي، وحيث فضاءات الحكي ذات نفس كفكاوي واضح كما في نصي “شارع الدم وفندق الحشرات”، و”نعال وأحذية”. نضيف إليها، على اعتبار مقتضيات المحكي، نص “حياة وحلم وشعب في تيه دائم”، ثم “مانكان عبد الفتاح كيليطو”.
يهمني هنا، على سبيل التمثيل، الإشارة إلى “شارع الدم وفندق الحشرات” حيث شخص ينقم على الحياة. لا يفعل شيئا سوى المكوث في غرفته رقم 30. يكتب جملا لا تستقيم لأنها لا تقول شيئا. ولذلك نراه، في متواليات السرد، يحلم بالمسدسات ويسير في جنازة عزلته التي “انتحرت على منديلك أيتها الحشرة اللاصقة في ذلك الجدار”، ص 40.
في نفس السياق نقرأ كيف انبثقت فكرة “حياة حلم…” من حادث إقدام شاب (مهندس للأسف)، في غشت 2007، على محاولة تفجير إرهابي بمكناس. تتطور كيمياء النص من هذا الحادث الدموي، عبر مسافات متعددة، يُستدعى عبرها بيدرو ألدوموفار ومحمد خير الدين… يتم ذلك فقط لتأكيد أن الضعيف، الكاتب والمخرج، واع بأن النص لا يكتب سوى في حوار مع النصوص القادمة من مجرات مختلفة. وذلك بالضبط ما سميته، أثناء قراءاتي لمسرح محمد قاوتي، بالنص الجوال. أقصد النص الذي تتشكل طبقاته من تحاور ثقافي.
– السجل الثاني يهم الكتابة والإبداع، ونقرأ ضمنه نصوص: “الكتابة ضد الموت”، “صفائح من نار”، “وطن المبدع عزلته”، و”الكتابة الروائية مقابل الكتابة المسرحية”.
ـ ثم هناك السجل الخاص بالمسرح تحديدا…. وتحديدا عناوينه التالية: ” قراءة الطاولة”، “تقاليد الممثل”، “الزاوية التيجانية في المسرح”، “الاشتغال مع بيتر بروك”، “مرآة شكسبير”، “كرنفال الحياة”، “استوديو الممثل” وغيرها. ويهمني بهذا الخصوص الإشارة إلى آخر ما تضمنه الكتاب “أفينيون في زمن الوباء”.
تتقاسم هذه السجلات الثلاثة المشتركات التالية:
ـ يقترح المؤلف في ورشته تعريفات ومفاهيم ومناظير للفن والحياة حول المسرح والفن عموما،
وكذلك حول الحياة والموت واللغة واللالغة…
ـ الكتابة في السجلات المتاحة محفوفة بتكنيك صوري يجعل القارىء يقرأ نصا، ويشاهده مرئيا.
ـ ثم هناك ثالثا طاقة سردية تستحق الانتباه.
في سياق ذلك سأختار الحديث عن”مانكان عبد الفتاح كيليطو ” نموذجا.
المحفز: فكرة انبثاق الفيلم السينمائي القصير “مانكان” الذي أخرجه الضعيف سنة 2007، عن نص كيليطو الوارد بكتاب “صراع الصور”.
مطلع النص يوحي بأننا إزاء سيناريو مقطعه الأول (داخلي/ نهار)، يوم الثلاثاء 21 نونبر 2006، بالشقة 8، لحظة الاستعداد لإعطاء انطلاقة تصوير فيلم “مانكان” بمشاركة محمد الشوبي، لطيفة أحرار، هند سحلي،….
أما مقطعه الثاني (خارجي/ نهار) فيقدم صورة عن كيليطو يتحرك في شارع يعقوب المنصور بالرباط، ذات مساء خريفي…
يتأجل التقطيع ليحضر السرد واقعيا.
أعجب الضعيف بكتابات كيليطو، بنص ” الشاب والمرأة” تحديدا. قرر تحويله إلى فيلم قصير. طلب لقاء كيليطو، وذلك ما تم بمقهى باليما بالرباط.
تتخلل هذه الخطوات تساؤلات الضعيف:
لماذا نفكر في تحويل نص ما إلى الخشبة، أو إلى الشاشة؟
بعد اللقاء، وقرار الموافقة، اتفق الطرفان على التوقيع على موافقة الكاتب على نقل نصه إلى السينما، وذلك ما يتطلب الحضور إلى المقاطعة الإدارية بحي الرياض.
الضعيف وكيليطو في الصف، مع مواطنيهما الطيبين الذين هناك لتوقيع بيع العقار والسيارات، أو لإثبات الخصومات وعدد الموتى والورثة… ولذلك كان طبيعيا أن يتساءل الضعيف الذي ورط كيليطو:
ما معنى هذا التوقيع؟ لماذا لا تكفي النسخ الخطية؟ ثم ما علاقة الموظف الذي لا يبدو أنه يعرف كيليطو والضعيف وغيرهما.
تمت المراسيم بالتوفيق اللازم.
ينتقل الضعيف إلى القطار على خط العودة، وبموازاته ينتقل النص إلى أجمل المقاطع (النص الموازي مثلا)، إذ يرى الضعيف، فيما يراه النائم، أنه يحضر مكانا كما لو علق في الأسطورة حيث ابن رشد يشاهد عرضا مسرحيا بمسرح محمد الخامس:
– “يخرج من العرض غاضبا، وهو يصرخ بكلمات غير مفهومة”.
يضيف السارد، أو الضعيف مباشرة (جنس المحكي يتيح ذلك):
“حلمت بأشياء عديدة، ومنها صف طويل بمقاطعة إدارية. وكان في ذلك الصف: الجرجاني، الجاحظ، أبو العلاء المعري، الحريري، الهمذاني، أبو حيان التوحيدي، المنفلوطي، بورخيس، بيكيت… شخصيات كثيرة تعرفت عليها لأن كل واحد منها كان يحمل لوحات خشبية عليها اسمه. كانت هذه الشخصيات تنتظر دورها لتصحيح توقيعها. شخص واحد تعرفت عليه بسرعة. وكان هو الموظف الذي يصادق على الإمضاءات، والذي لم يكن سوى عبد الفتاح كيليطو” ص 86.
قراءة ممتعة كما أتمناها لكم، وفي البال احتفاء آخر بالضعيف حين يعرض على العموم نصا عن إحدى فاتنات السينما الغربية.
قرأت ذلك النص لكنني لست مخولا للقول بصدده أكثر من الترحيب.
عن: أسبوعية “الوطن الآن”، عدد الخميس 8 يوليوز 2021.