إذا كانت البتول في ما معناها تشير إلى المضربة عن الزواج والمنقطعة عن الرجال، فهل هي نفسها البتول ستكون موضوع الحكاية والمسرحية؟ أم هي صورة أخرى لأنثى تحمل الاسم نفسه، قبل أن تثور على معناه ومبناه. وكيف يمكن لأنثى أسيرة قرون الجاهلية، والراقصة على تراتيل الجاهلية، أن ترفض تعاليم الإمامة، وتتمرد عن العمامة، فتطلق شهوتها الأنثوية، مكتشفة ذاتها وتفاصيل جسدها وأنين روحها وماهية جنسه في مواجهة كل القيود التي رسختها تقاليد الجاهلية؟ كيف يمكن للبتول أن تكون مضربة ومنقطعة، وفي الوقت ذاته تترك لنفسها مجالا لكي تتلمس الشمس بقعا من جسدها الذي طالته الحجب وآيات المنع والممانعة، وحتمية الحلال والحرام، وخرافة (عيب وحشومة)، فتراها تهرب من حضن إلى آخر، ومن زقاق إلى آخر، ومن مدينة إلى أخرى، ومن أغنية إلى أخرى كي لا تعكر صفوها كل تراتيل الجاهلية، وصيحات العشيرة، وضجيج القبيلة، ولا حتى رجولة الرجل المغرورة المتغطرسة.
البتول قد تكون أو هي سيرة أنثى عربية تعلن تمردها ضد من يتحكمون في الحياة والمستقبل والجسد، وحتى في “خصلات الشعر” بتعبير نوال السعداوي، فتفتح النافذة التي طالها غبار الجاهلية لكي يدخل الهواء المنعش إلى رئتي الحياة عسى أن تقضي على الطحالب العالقة، ومن أوهام أمة بدأت ـ منذ قرون الجاهلية ـ سيرتها بالوأد، ولا زالت تردد الأغنية نفسها.
البتول قد تكون هي نفسها تلك الصبية المتمردة التي انفجرت بالأسئلة التي سبق أن طرحتها نوال السعداوي في “مذكرات طبيبة”:
ـ لماذا كانت الأم تضع هذه الفروق الهائلة بيني وبين أخي، وتصنع من الرجل إلها على أن أقضي عمري كله أطبخ له طعامه؟
ـ لماذا يحاول المجتمع دائما أن يقنعني بأن الرجولة امتياز وشرف وأن الأنوثة مهانة وضعف؟
ـ هل يمكن لأمي أن تصدق أنني أقف وأمامي رجل عار وفي يدي مشرط أفتح به بطنه ورأسه؟
ـ هل يمكن للمجتمع أن يصدق أني أتأمل جسد الرجل وأشرحه وأمزقه دون أن أشعر أنه رجل؟
ـ من هو المجتمع؟ أليس هو ذلك الرجل مثل أخي ربته أمي منذ الطفولة على أنه إله؟ أليست تلك النسوة مثل أمي ضعيفات عاطلات؟ قد تكون البتول سيرة متعددة لنساء خُضبت أيديهن منذ الجاهلية بالممانعة، وكل أنواع الحجاب، ولازلن ينشدن أغنية التحرر من الأوهام، ويحلمن بتغيير نغمة الفونوغراف من تراتيل الجاهلية إلى أغنية تنشد الحياة.
وعلى تلك الصورة، نجد بوح (البتول) لفرقة فانوراميك لفنون العرض، التي ألفتها نزهة حيكون عن (بعيدا عني بخطوة) لزهير عه به ره ش، ومن إخراج الفنان محسن زروال، وكوريغرافيا من توقيع الفنان توفيق أزديو، وصمم سينوغرافيا العرض الفنان مصطفى دوادة، ومن تشخيص كل من فاطمة الزهراء شتوان وعبد الحليم بنعبوش.
تعد مسرحية <البتول> سيرة أنثى من العالم الثالث، تعلن ثورتها ضد الأب والأخ، وتمرد معلن على الروح والجسد، وصورة واحدة من أحلام مجهضة لأنثى من العالم الثالث، وصورة الرجل الشرقي المتعددة في حياة امرأة شرقية، وصورة أخرى لجسد أنثى، للمجتمع وللأب والأخ حق عليه، ولو كان يرقص على إيقاعات (Lara Fabian) في شارع في باريس أو تحت قوس النصر. <البتول> أنين امرأة شرقية، وبوح أنثى عربية تعلن تمردها على الوضع المزري وهي تتجه نحو حذفها، وكشف صارخ لعقل الرجل العربي الذي يحمل في ذهنه قرونا من غبار الجاهلية.
فعلى غرار “مذكرات طبيبة” لنوال السعداوي، نجد (البتول) موضوع المسرحية تنحو نحو السيرة والحكي واستدراج إلى الكلام والبوح بالمكبوت المستوطن في ثنايا نفس أنثى مشرقية. ومن ثم، لم يكن البوح وسيلة للعلاج، بقدر ما كانت وسيلة لاسترجاع كل الحبال التي تربطها بالأب والأخ والطفولة وبالناس والمجتمع والشريعة والحرام والمحرم وبالنرجسية والشهوة.
هي في نهاية الحكاية، تمرد أنثى تقودها رغبتها وشهوتها ووحدتها القاتلة لتكشف عن ثورتها وشريعتها على شفاه العشاق، هي امرأة لا تشبه الكثيرات فلا جديد في حياتهن، وأحلامها هي أحلام مجهضة لامرأة من العالم الثالث في علاقاتها بالآخر أي الرجل، فتراها تطرح أكثر من سؤال: من يقع ضحية الآخر الرجل أم المرأة؟ وكيف يمكن تكسير قيود الحياة والزواج؟ وكيف يمكن أن تتمتع بهامش للحرية بدون رقابة مطلقة، ويد عليا توجه الاختيار ونوع اللباس؟ كيف يمكن التحرر من مجتمع يملك الحق على جسد هذه الأنثى ولو كانت ترقص في شارع بباريس أو تحت قوس النصر؟ كيف يمكن التحرر من فكر الأخ وعقل الرجل العربي الذي يحمل في ذهنه قرونا من غبار الجاهلية.