يعد المخرج (سامي عبد الحميد) من المخرجين الذين تعددت لديهم الأساليب الإخراجية ، إذ لم يقف عند أسلوبٍ مسرحي واحد لذلك أخرج عدداً من المسرحيات ذات التوجهات النصية المختلفة ومنها (تاجر البندقية) و (انتيجونا) و (الحيوانات الزجاجية) و (ملحمة كلكامش) وغيرها من الأعمال المسرحية. فهو كان ميالاً ذا نزوع نحو التجريب حيث إن هذا الاتجاه يقف على الضد من الثبات على أسلوب واحد، إلى جانب التجديد الذي يعني الابتكار والإبداع ، وهكذا فقد أتسع أفق تجاربه اتساعاً واضحاً ، مما جعله من المخرجين الطليعيين في المسرح العراقي.
تميز سامي عبد الحميد في التعامل وبانتقائية في اختيار نصوص مسرحية تتلاءم مع تجاربه المسرحية التي يريد أن يقدمها إلى الجمهور، فقد كان يعمل على التدخل في النص المسرحي ويصل إلى درجة” تحوير النص المسرحي أكثر من مرة وان يعمل كما يقول : (على القيام بما يشبه المونتاج لأغلب النصوص المسرحية التي أخرجتها ، وهو أحد المؤشرات المهمة لأسلوبي الاخراجي ، حيث إنني بذلك أحاول تطويع النص لمتطلبات الخشبة وفقاً لرؤيتي الخاصة التي قد تختلف بقليل أو كثير عن رؤية المؤلف .
تعامل (سامي عبد الحميد) مع نصوص مسرحية مختلفة عالمية وعربية وعراقية ، وفي النصوص العراقية تنوعت تجربته بين التاريخي القديم (ملحمة كلكامش) و (الليالي السومرية) وبين الشعبي المعاصر (كما في مسرحيات يوسف العاني (تؤمر بيك) و (إيراد ومصرف) و (الخان).
ونص الخان الذي يعد من النصوص المهمة في تجربتي المؤلف (يوسف العاني) والمخرج (سامي عبد الحميد) كون هذا النص له مدلولات وطنية ارتبطت بأحداث من تاريخ العراق الحديث ، ألا وهي انتفاضة (رشيد عالي الكيلاني) وزملاءه ضد الحكم الملكي التابع للسيطرة الاستعمارية ، وهذا ما جعل لبريطانيا تتدخل بقوتها العسكرية لإنهاء الانتفاضة في عام 1945 ، حيث أراد المؤلف لنص الخان أن يكون ذاكرة عراقية حية فهو قصد بـخانه أن يكون مجتمعاً كاملاً يؤرخ لهذه الفترة كمادة درامية انتزعها من ذكرياته وانطباعاته عن تلك السنوات ،ومن الوثائق التاريخية التي سجلها المؤرخون ، من خلال رؤيته لمجمل تلك الأحداث والشخصيات والمواقف وصياغتها صياغة درامية فيها المؤشر الواضح للمستقبل .
يسجل (العاني) في الخان مذكرات تلك الفترة من خلال شخصية (سليم) الذي أرشف لتلك الفترة ، إذ إن الصراع في هذه المسرحية يترتب على أساس الربط بين الأحداث الداخلية بسكان الخان وبين الأحداث السياسية في العراق ، لذا عمل (العاني) على بناء صورة درامية حاول أن يزاوج بين ما هو درامي وبين ما هو واقعي من خلال عملية ربط الشخصيات برموز أعمق ،ومثال ذلك ما يشير إليه الناقد (ياسين النصير) في كتابه (بقعة ضوء بقعة ظل) إذ يقول : عندما لا يستطيع – جاسم – قتل الحية ويقطع ذيلها وتختفي داخل الخان ، نجد هروب الوصي واختفاءه خارج الخان في مقابل ذلك يعلن – سليم – رغبته بالزواج من – أميرة – داخل الخان ، وعندما تسقط الوزارة ، يرسب – سليم – في الامتحان ، وعندما يعاد تشكيل الوزارة يزداد حماس صاحب الخان وتسلطه… وعندما تلدغ الحية العامل (عباس) داخل الخان ، يعود الوصي من جديد بعد هروبه .
أمَّا في إخراج المسرحية الخان ، فقد عمل (سامي عبد الحميد) على التركيز في آلية نقل الأحداث إلى المسرح بطريقة يستطيع بها المتلقي التواصل مع الأحداث من خلال الربط بين الأحداث الدرامية على المسرح وبين تلك الفترة التاريخية المهمة في تاريخ العراق، حيث اعتمد المخرج على عنصر تبسيط الفعل وتوضيحه من خلال دلالات الحوار، فكانت جمله تصل إلى المتفرج وهي تحمل شحنة من الإيحاءات والرموز ، وقد طور بذلك رموز المؤلف الأساسية فجعل راضي راضياً بكل ما يجري في الخان ومعارضاً لأي تغير فيه ، وقدوري مؤمناً بالقدر الذي يحوله من مدمن إلى متزن عاقل ، وسليم الطوية والفكر ومنبر إشارة للأفكار النيرة ، وصلاح مؤمناً بالإصلاح والنظام، وجاسم معادلاً للحس الشعبي الواعي ، وحبيب مثالاً للإنسان الأمي الساذج… الخ وقد أوصل المخرج ملامح هذه الشخوص من خلال التقابل الإيحائي بين ما يحدث خارج الخان وما يحدث داخله .
عمل سامي عبد الحميد إلى توظيف عامل مهم في تحقيق تواصل مسرحي مع الجمهور من خلال أحداث المسرحية ، ألا وهو إسقاط الجدار الرابع من خلال عملية إدخال الجمهور إلى خشبة المسرح ،وكذلك عمل على توزيع الخشبة بشكل دقيقٍ إلى يمين ويسار ووسط فقد جعل جزءاً من الخشبة ممتداً داخل الصالة ، حيث أجرى عليه الأحداث الأكثر التصاقاً بحياة الشعب (انهيار حميد ، تحسس جاسم للأخطار ، دخول وخروج سليم ومنير إلى الخان) يمين المسرح لصاحب الخان وحاشيته ، بينما توزعت يسار المسرح شخصيات شعبية ممن انسحقوا بفعل الأحداث .
عمل (المخرج سامي عبد الحميد) من خلال رؤيته الإخراجية لمسرحية (الخان) على توظيف عدد من العناصر المسرحية التي كشفت الخطاب الكولونيالي من خلال صياغة فاعلية خطاب نقيض له يركز فيه المخرج على أهم أفعال الخطاب الأول وكما يأتي:
- إنَّ اختيار نص (الخان) ليوسف العاني من قبل سامي عبد الحميد وتركيزه على موضوع عراقي معاصر أراد من خلاله أن يضع علاقة مهمة للدور الذي لعبه الاستعمار البريطاني في إضعاف حركة الممانع الشعبية اتجاه ما كان يحدث فترة الحرب العالمية الثانية من قبل بريطانيا ،واستغلال العراق كساحة نفوذ لها من خلال حكومات تنفذ ما يطلب منها وخاصة في الاتفاقية التي تمت بين بغداد ولندن ، وقمع الحركة الاحتجاجية المطالبة باستقلال العراق بشكل كامل وليس تابع لنظام استعماري مارس أدوار غير نظيفة اتجاه الشعب العراقي.
- استخدم سامي عبد الحميد مجموعة من العناصر المسرحية في الربط بين صورة الخان وبين أحداث العراق عام 1941-1945 من خلال بث شحنة إيحائية للمتلقي للإيحاء بما يحدث في تلك الفترة من تاريخ العراق.
- محاولة كسر الجدار الرابع ومشاركة الجمهور بالأحداث بشكل مباشرة هو لجعل المتلقي الذي قدمت له المسرحية بعد ثلاثين سنة من وقوع أحداث انتفاضة عام 1945، يركز بالواقع العراقي في تلك الأحداث وما كان من دور للدول الاستعمارية في التأثير على الحكم العراقي وتغيير مساراته نحو التبعية إلى الغرب.
- استخدم الأسلوب الشعبي والتبسيط في إيصال الأحداث إلى المتلقي وبشخصيات قريبة من الواقع المعاش، أراد من خلالها المخرج أن يحقق أكبر قدر من الالتحام مع الجمهور العراقي وإيصال الهدف المرجو من المسرحية.
- أراد المخرج أرشفت عرض مسرحية (الخان) لفترة من تاريخ العراق على خشبة المسرح لتكون شاهداً حياً على تلك الفترة وعلى الأدوار التي كانت تمارس من قبل السلطة وأعوانها وميلها إلى الانقياد للخطاب الكولونيالي الذي يجعل من الآخر العربي تابعاً للغرب ،وبين المد الوطني الشعبي الرافض لتلك التبعية ،وبالتالي فان تقديم عرض تلك الواقعة يمثل إعادة بث الروح فيها من جديد، لتبقى شاهد عيان على ما حدث وتحذر مما يحدث في المستقبل.
إذن تعد فاعلية الخطاب النقيض في المسرح ظاهرة مهمة لا يمكن التعامل معها بشكل منفصل عن ظاهرة المسرح المقاوم لكل اشكال السيطرة ، مما يضاف الى مجال دراسة المسرح عاملاً مهما يستطيع من خلاله العاملون في هذا المجال الى تأسيس قاعدة علمية في انتاج عروض مسرحية هدفها كشف الظواهر المسيطرة والمهيمنة ثقافياً في الساحة العراقية وتوضيحها ،من اجل كشفها وتبيان مدى خطورتها في المجال الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي على العراق ، إذ استخدم المخرج العراقي الخطاب النقيض كجزء من رؤيته الإخراجية في مناهضة الخطاب الكولونيالي ، وذلك محاولة منه لكشفه وفضحه وبالتالي المساهمة في تفكيك الخطاب الكولونيالي في الساحة الثقافية في العراق. ولا تقتصر فاعلية الخطاب النقيض في عروض المسرح العراقي على مفصل من مفاصل الحياة العراقية ، بل يشمل أغلب المفاصل المتمثلة بالجانب (الثقافي والاجتماعي والسياسي والديني) وغيرها.
إنَّ فاعلية الخطاب النقيض في المسرح العراقي لم تركز الضوء على قضايا داخلية فقط تهم المواطن العراقي في الداخل المحلي ، بل ان الخطاب النقيض بفاعليته تجاوز حدود الملية واصبح شريك في الهم العربي أيضاً ، من خلال تناول القضايا التي تهم الامة العربية ومنها القضية الفلسطينية . لقد تنوعت الرؤية الإخراجية والوسائل والأساليب لكشف الخطاب الكولونيالي في عروض المسرح العراقي في إيجاد خطاب نقيض يعمل وفقه المخرج لإيضاح ما هو مستور من الخطاب الكولونيالي على الساحة الثقافية العراقية والغربية . كذلك سعى المخرج العراقي أن يفضح ويفكك الخطاب الكولونيالي المهيمن بأكمله في العراق ؛ الا أن الأخير يمتلك أهداف مختلفة بعضها يمكن كشفه والآخر يكون خارج الرؤية المباشرة للمخرج العراقي ،وذلك بسبب عدم وضوح كل ملامح الخطاب الكولونيالي وأهدافه في العراق.