المسرح في مفهومه الإغريقي المتطور، هو صور إنسانية متلاحقة، /هو لقطات متتابعة، لا تكاد تمسك الواحدة منها حتى تداهمك الأخرى/هو حوار ينطلق من اللحظة الحية، يتصل بالحاضر المتحرك، يتصل بالآن/ انه يختلف عن الرواية والقصة والسينما، لأنه حدث يتفجر أمام الجمهور المتلقي، يولد لحينه، يخاطب الإحساس والمشاعر ويتفاعل معهما.
“الاحتفالية” تقوم على نفس الأسس، وعلى نفس المواصفات، إن الاحتفاليات العربية الإسلامية الشعبية : الحلقة/ المواسم / السامري/ سلطان الطلبة / التعازي، هي أثار فنية بقت لزمن طويل مرتبطة بإطارها البيئي الخاص، وبعالم من المدلولات الثقافية والحضارية، وبأبعاد من المعاني المأثورة، وأيضا بشبكة من المعطيات الحضارية المتجددة، التي لا تنتقل بالانتقالات العرضية في المجتمع. منابعها شديدة التشابك رغم فطريتها الشكلية، وعناصرها متعددة ومختلفة بتعدد واختلاف المناطق العربية الإسلامية.
وهذه الاحتفاليات على المستوى الفني/ الإبداعي، تمتلك لغة إنسانية، استطاعت من خلالها مخاطبة مختلف البيئات و العقليات المتباينة، وبناء جسور من التواصل الإنساني بين المؤدين والمؤدي إليهم / جسور تقوم على العفوية والتلقائية والبساطة، فهي زيادة على كونها تجربة إنسانية شاملة، تكشف عن خلفيات سياسية واجتماعية عامة، لأنها في الأصل صور متلاحقة تتصل بالحاضر المتحرك، وتمثل الماضي بحوار ينطلق من اللحظة الحية، لا تختلف في عمقها عن مفهوم المسرح الإغريقي… ولا عن المسرح الملحمي.
*****
وإذا كان مبدأ التحدي هو أهم عناصر المسرح الإغريقي، فان الاحتفاليات العربية / الإسلامية التي ما تزال على فطريتها الأولى رغم تعاقب الأزمان والحضارات والأحداث عليها، فان سر بقائها يرجع بلا شك إلى اعتمادها على نقل الثابت لا المتغير، ذلك لان الثابت وحده يملك قوة التحدي/ تحدي الزمان والمكان/ وحده يملك لغة إنسانية تخاطب العقليات المختلفة والبيئات المختلفة، وبدلك استطاعت هذه الاحتفاليات الانتقال عبر أشياء لا مرئية إلى أعماق الإنسان.
المسرحي المغربي المبدع د.عبد الكريم برشيد الذي التزم مند عقود طويلة بفكرة المسرح الاحتفالي بحثا وتنظيرا وإبداعا، يري أن المسرح القائم على الاحتفاليات الإسلامية / العربية،لابد له أن يكون بحثا عن التواصل الإنساني /على الحوار مع الآخرين، ولابد له أن يسعى إلى التلقائية والعفوية والبساطة في عروضه، كما هو شان الحياة اليومية .
إن المسرح في احتفاليته حياة، والحياة لا يمكن أن تتسم بالميكانيكية الجامدة، لان الممثل ليس آلة تسجيل يحشو ذهنه بالحوار، انه يتحول في الاحتفالية إلى أحد العناصر المبدعة التي تكسب العمل حيويته وتلقائيته وعفويته، إنه أي المسرح حدث متكرر في عروضه إلا أن ارتباطه بالحاضر المتحرك يكسبه صفة التجدد، ومن ثمة ينبع الفرق بينه وبين باقي الفنون.
لأجل ذلك، المسرح في نظر الاحتفالية لا يمكنه أن يدرس القضايا والصراعات في المخابر والقاعات المغلقة. إن الساحات العمومية والأسواق والأعراس والمواسم والتجمعات البشرية هي المسارح المفتوحة لقضايا الناس، وصراعاتهم، وهي الخريطة التي تعكس جغرافية الحدث الإنساني.
*****
إذن من هذه الزوايا نجد أن وظيفة المسرح الاحتفالي ليست في تفسير الواقع، وإنما في تجاوزه. فالتغيير والتجاوز والانجاز الفني لا يمكن أن يتم إلا عن طريق العقل الشاعر الذي يستوعب الأشياء بعد مرورها بالحس. التعبير الدرامي الذي يطمح إليه المسرح الاحتفالي يرتقي إلى لغة مصورة تخاطب الحواس، ترتكز على الفعل والحركة كما ترتكز على الأسطورة والحلم والرمز.
الاحتفال بهذا المفهوم تحطيم للمنطقي والعادي، تحويل إلى مشاركة الجمهور الوجدانية والحسية، وهو في هذا المنحى يلتقي مع مسرح يونسكو الملحمي الذي يعمل من اجل تعرية الواقع وشحنه بمضامين سياسية تتوافق مع رؤية الكاتب الإيديولوجية.
نعم، إنها خطوة من أجل ترويض الواقع عن طريق الفناء فيه، لكن عبر عملية استئصال فنية للمعطيات الحسية بأداة التجريب.
إن الفن من هذا المنظور، توتر كالحلم، واستباق للواقع.