تجربة ذاتية لنادي مسرح الانفوشي كتبها وأخرجها أشرف علي وشارك بها ضمن فعاليات المهرجان الختامي السادس والعشرون لنوادي المسرح والمقامة بأرض السامر بالقاهرة 2017 ليحصل علي المركز الأول ويمثل الهيئة العامة لقصور الثقافة في المهرجان القومي للمسرح المصري الدورة الحادية عشر دورة الكاتب محمود دياب عارضاً أفكار وجودية شديدة الغلو تضع النفس البشرية أمام مرآة مقعرة لتري كينونتها في أشد حالاتها ضعفا وتشوها وتطرح الأسئلة الأكثر قسوة وتعصب وغلو : أين ؟ ، كيف ؟ ، لماذا ؟ ، .
هو نموذج لانسان القرن وكل قرن ذلك الذي فقد كينونته ففقدته ، فقد هويته فلفظته ليهيم علي وجهه في اللامكان ليصبح قاطن كل مكان ويعرج في اللازمان ليسكن كل زمان معبرا عن تشتت ظاهر وخفي تجلت فيه ديمومة الشك المتربصة بالهوية المستباحة .
بدأ العرض بشاب في صدر شبابه يرتدي الملابس البيضاء الزاهية ليقابل باثنين من المرتدين الملابس السوداء وبعد صراعا تعبيريا يبدأ الصراع بالكلمات بعد تقمص مرتدوا الملابس السوداء للملكين ( منكر ونكير ) هؤلاء الذين يقابلهم الميت في قبره في الثقافة الدينية الإسلامية ليبدأ معه السؤال عن الاسم والدين والرسول والإله وتجئ ردود الشاب ردودا لا تخلوا من الشطط والشك وانعدام القيمة والهدف والأمل والرجاء .
تبدأ حكاية الشاب من نهايتها حيث يصاب بالشك المرضي بكل القيم والمثل وحقيقة الوجود نظرا لموت أمه السيدة التي كانت له سندا في حياته وعند مرضها تضرع الشاب للإله أن يحميها ويحفظها من السوء ولما حق القول علي الأم وحلت ساعتها وانتقلت إلي الرفيق الأعلي بدأ الشاب رحلة الشطط والشرك الي اللاعودة واستحل التلذذ باللامعرفة ليعرف واللاوجود ليوجد واللاانتماء لينتمي ولان عقله لم يحتمل فحاول الوثوق في طبيبه الذي حاول اثناؤه تارة ومطاوعته تارة اخري وعندما ابتعد الشاب عن الطبيب ليبدأ رحلته الي الانتهاء فوجئ الطبيب في نهاية العرض بشاب آخر يبدأ رحلة اللاعودة ليتساءل ( كيف يكون للأشياء معني أن لم تكن من لحم ودم حقيقيين ؟؟!! )
قسم المخرج بطله الشاب إلي اثنين متماثلين في الجسد والملبس مختلفين في المرحلة العمرية والشكل المادي احدهم شابا في مقتبل شبابه تشبث بأمه حتي ماتت والآخر شابا في صدر شبابه تعامل مع الملكين الشرير ودفان الموتي وقسم –من ثم – المخرج مسرحه إلي بؤر تم تأطيرها عن طريق الإضاءة أحيانا وخطوط الميزانسن أحيان عدة وما لبثت هذه التقسيمات أن تداخلت تداخلا مقصودا في الزمان والمكان ليحدث خلخلة فيهما فيتحدا لينقلا حالة التشتت والغلواء المسيطرة علي الشاب وعلينا من تلك الأفكار الصادمة التي ألقيت من فوق منصة التمثيل واقتحمت الآذان والأفئدة والعقول عمدا وقسرا لتفرض أسئلة وجودة شديدة التعقيد تنقل إلي اليقين للمتيقن وتزيد ارتباك المتشكك .
ولان مكان الأحداث تم تحييده وكذا زمان الأحداث لمحاولة تصدير فكره هنا / الآن فقد نجحت سينوغرافيا العرض في نقل الحالة الشعورية والوجدانية للشاب المتأرجح وذلك باعتماد التكوينات الحجرية لموتيف أساسي للعرض المسرحي قابل للاشتعال فتراصت الصخور وتفرقت وتجمعت وابتعدت في تكوين عشوائي منظم فضلا عن إصرار خلق حاجز صخري بين أبطال منصة التمثيل وأبطال جمهور النظارة لخلق حالة من الترقب والوصول إلي جوهر الحدث والحديث فيراقب المتلقي الممثل عن كثب ويتلصص علي ما كان عل ما كان يصبح تحذيرا لما قد يكون من جراء اعتناق تلك الأفكار المتأرجحة بين الخطأ والصلف ليقع الإنسان في بؤرة اللايقين واللاعودة إلي الفطرة .
جاء التمثيل متوافقا مع الرؤية الذاتية للعرض المسرحي قابل للاشتعال ذلك أن حالة ( الفضفضة ) التي لا تخلو من التجاوز فكريا ومحاولة الخروج عن الأفكار المقولبة في نظر من يحاول كسرها والأفكار الفطرية في نظر من يحاول تقديسها لتظل حالة التجاذب والتوافق والتنافر متوازية مع الأفكار المطروحة ذلك أن سبيل وصول تلك الأفكار وأدوات توصيلها إلي الجمهور كانت العديد من المواهب التمثيلية التي أيقنت ضرورة الخوض في غمار تلك المعركة الوجودية بل والتصريح بما منع عنه التلميح به سابقا ولأنهم طاقات تمثيلية لا تخلو من الموهبة فقد أخذت الأفكار تنطلق من فوق شفاهم كالسهام الواضحة الهدف والمبتغي فتحققت الرسالة وتحقق الهدف فبرع الشيطان والشاب المكلوم والأم ناعمة الإحساس والدفان الساعي للاستقرار النفسي
اعتمد المخرج / المؤلف فكرة الحواجز التي وضعت عمدا لوضع الإنسان أمام ذاته في المرآة / أمام شبيهه في الحياة مستغلا طاقات تمثيلية راقية وطاقات سينوغرافية لا تقل رقيا فاتخذ الحاجز الحجري ليفصل بين المنصة والجمهور فاتحدا، واستخدم الحاجز المعنوي ليفصل بين ما يحدث في عقل الممثل / الشاب والمتفرج / المتلقي فحاول المتفرج أن ينأ بنفسه عن التماهي مع الأفكار المطروحة أو التوحد والتفاعل معها وأن تشكك واستخدم الحاجز الزمني عن طريق الإضاءة وتقسيم خشبة المسرح والتي عمد إلي تضييق وتحييد وتداخل المسافات بينها ليعلن عن وعي بمفردات الإخراج ومفردات خشبة المسرح ليتجلي في النهاية الحاجز الأكثر قسوة والأكثر صلفا وذلك الحاجز هو حاجز الأسر البشري والذي جعل الإنسان – طواعية- أسيرا لمعتقدات توارثها وامن بحقيقيتها بفعل التوارث وليس بفعل اليقين والمعرفة فأصبح العامة قطيعا منساق وراء قطيع ولم ينجو من التبعية إلا من أمن إيمانا صادقا بحقيقية الوجود وامن بجوهر الأشياء وحق الحق بالإتباع وهو خالق الوجود .
تجربة قابل للاشتعال هي تجربة ذاتية للمخرج كتبها بقلمه ونفذها بنفسه لينقل أفكاره عن تصور جوهر الأشياء وعرض أزمة الهوية وأزمة اليقين وأزمة الخطاب وأزمة التلقي وهي أزمات محل جدل وشد وجذب معتمدا علي طاقات تمثيلية مميزة نقلت القضية بأمانة الموهوب وتمكن الواثق .